
«تاريخ الصلاحية».. كذبة تاريخية تُلقي بمليارات الدولارات في القمامة
في أركان العالم المختلفة، بات من المعتاد أن تُلقى عبوات الزبادي غير المفتوحة، وأكياس الخضروات، وأرغفة الخبز في سلة المهملات، لمجرد أن تاريخاً مدوّناً على الملصق يشي بانتهاء الصلاحية، هذا التصرف الذي أصبح آلياً لدى الكثيرين، ينبع من قناعة راسخة بأن الطعام "المنتهي" غير صالح للأكل، لكن، ماذا لو كانت هذه القناعة مجرّد وهم؟ وماذا لو كان تاريخ الصلاحية سبباً خفياً في إهدار مليارات الأطنان من الطعام الجيد سنوياً؟
تاريخٌ يضلل المستهلك ويكلّف العالم ثمناً باهظاً
وفقاً للبيانات، يُلقى نحو 40% من الطعام المنتج عالمياً في القمامة، بما يعادل 1.3 مليار طن سنوياً، ويُهدر كذلك أكثر من 170 تريليون لتر من المياه العذبة في إنتاج طعام لا يُستهلك، وفي الولايات المتحدة وحدها، تخسر الأسرة الواحدة ما بين 1,300 إلى 2,200 دولار سنوياً نتيجة هذا الهدر، هذا العبث بالموارد الغذائية والمالية يعكس خللاً عميقاً في ثقافة الاستهلاك العالمي، وفقا لـ starsinsider.
الفجوة الصادمة
وسط هذه الأرقام المفزعة، يعيش ملايين البشر تحت وطأة الجوع وانعدام الأمن الغذائي، المفارقة أن كميات كبيرة من الطعام الصالح تُهدر يومياً، بسبب خلل في توزيع الموارد، وسوء تقدير في صلاحية الغذاء، نتيجة اعتماد غير دقيق على التواريخ المطبوعة على العبوات.
تقول دانا غوندرز، المديرة التنفيذية لمنظمة "ريفيد" المعنية بمكافحة هدر الطعام، إن "الموضوع في غاية التعقيد".
وتضيف أن المستهلكين غالبا ما يعتقدون أن عليهم التخلص من الطعام فورا بعد التاريخ المدوّن، بل يشعرون كما لو أنهم يخالفون القوانين إذا لم يفعلوا ذلك، رغم أن هذا ليس صحيحًا دائما، وفقا لـ cnn.
في الواقع، لا يوجد في الولايات المتحدة نظام وطني موحّد لتنظيم تواريخ الصلاحية أو تحديد صيغتها، بل يعتمد الأمر على مزيج من القوانين المحلية، والتوصيات الإرشادية، وممارسات السوق.
حماية العلامة التجارية أولاً
بالنسبة للشركات المصنعة، فإن تواريخ الصلاحية ترتبط أكثر بالجودة والطعم وليس بالسلامة الصحية. يقول آندي هاريج، نائب رئيس الاستدامة في جمعية FMI لصناعة الأغذية: "نريد من المستهلكين أن يتذوقوا المنتج في أفضل حالاته حتى يُقبلوا على شرائه مرة أخرى".
ويُطلق على هذا التاريخ أحيانا اسم "تاريخ انتهاء الصلاحية"، لكنه في الحقيقة تاريخ الجودة المثلى وليس نهاية صلاحية المنتج.
ما يجب أن يعرفه المستهلك
في الولايات المتحدة، يُعد حليب الأطفال الغذاء الوحيد الذي تفرض القوانين وجود تاريخ صلاحية إلزامي على ملصقه. أما باقي المنتجات، فتُحدد تواريخها بناءً على تقديرات المصنعين لأفضل فترة استهلاك، وليس استنادًا إلى قواعد سلامة دقيقة.
توصي إدارة التفتيش وسلامة الأغذية (FSIS) بأن الكثير من المعلبات تدوم بين سنة إلى خمس سنوات إذا حُفظت في ظروف مناسبة، فيما تدوم الحبوب الجافة مثل الأرز والمعكرونة قرابة عامين، أما اللحوم الطازجة، فقد تفسد حتى قبل التاريخ المدون على العبوة، بسبب تفاوت درجات حرارة التخزين بين المتاجر والمنازل.
بداية القصة.. والرموز الغامضة
بدأت الشركات بوضع تواريخ على المنتجات في أوائل القرن العشرين، لكنها كانت في شكل رموز غامضة لا يفهمها سوى موظفي المتاجر، وبحلول السبعينات، طالب المستهلكون بمزيد من الشفافية، ما دفع الشركات لاعتماد نظام "المواعدة المفتوحة".
وأول من اخترع ملصق «تاريخ انتهاء الصلاحية» كان متجر «مارك أند سبنسر» الشهير في السبعينات، وكان الهدف منه تسويقياً، وليس حفاظاً على الصحة، وأراد المتجر البريطاني الشهير التخلص من الأطعمة الموجودة في مخازنه بشكل أسرع، فاستخدم تلك العبارة، التي نشأت لأول مرة في فترة الكساد الكبير بالولايات المتحدة، وأيضاً كانت لأهداف تسويقية.
لكن تقريرًا حكوميًا صدر عام 1979 أشار إلى أن هذا النظام لم يكن فعّالًا في تقليل القلق بشأن نضارة الطعام، نظرًا لغياب المعايير الواضحة لتحديد التواريخ أو صياغتها.
في مواجهة هذا الالتباس، بدأت بعض الشركات مثل "موريسونز" البريطانية بالتخلي عن تواريخ "يُباع قبل"، واستبدالها بعبارات "يفضّل استهلاكه قبل"، داعية المستهلكين إلى الاعتماد على حواسهم – كالرائحة والمظهر – لتحديد ما إذا كان الطعام صالحا للأكل.
تقول غوندرز من "ريفيد": "إذا كانت رائحة الطعام كريهة أو مظهره غير طبيعي، فلا يجب تناوله. حواسنا قادرة على تنبيهنا في كثير من الأحيان إلى الخطر".
لكنها تحذر في الوقت نفسه من التهاون مع بعض الأطعمة الحساسة مثل تلك المعرضة لبكتيريا الليستيريا، والتي يُنصح النساء الحوامل بتجنبها.
التباين في المصطلحات المستخدمة مثل "يُفضل استهلاكه قبل" و "يُباع حتى" بين الدول، وحتى بين الولايات الأمريكية، أربك المستهلكين، وبسبب غياب التوحيد والمعايير الواضحة، أصبح الخيار الأسهل للمستهلك هو التخلص من المنتج بدافع الحذر.
طعام صالح... يُهدر دون سبب
معظم المواد الغذائية – خاصة المعلّبة – تظل صالحة للأكل لأسابيع، وربما أشهر، بعد تاريخ صلاحيتها، ومع ذلك، يؤدي الغموض في ملصقات التاريخ إلى سلوك استهلاكي مفرط في الحذر، يُفضي إلى هدر منتجات سليمة.
خسائر تجارية يتحملها الجميع
تتحمّل المتاجر والشركات خسائر كبيرة بسبب التخلص من منتجات غير مباعة أو متضررة شكلياً، هذه الخسائر تُحمَّل لاحقاً للمستهلك من خلال رفع الأسعار، بل إن بعض السياسات، خصوصاً في الولايات المتحدة، تمنع المتاجر من التبرع بالأطعمة "منتهية الصلاحية" لبنوك الطعام، خوفاً من المساءلة القانونية، رغم أنها صالحة للأكل.
ثقافة الهدر... صناعة اجتماعية مدفوعة بالمظاهر
وسائل التواصل الاجتماعي، والمعايير الصارمة في عرض الطعام، ساهمت في تعميق ثقافة "الطعام النخبوي"، حيث يُشترى طعام فاخر للعرض لا للاستهلاك، كما أن المتاجر تُفرط في تكديس الرفوف لخلق صورة من الوفرة، ما يؤدي إلى هدر "مخطط" لمنتجات لا تُباع.
ويُرفض الكثير من الخضار والفواكه بسبب شكلها غير المثالي، رغم جودتها، ما يسهم في إهدار طعام يمكن أن يُغذي ملايين المحتاجين.
نحو إصلاح جذري يبدأ من الوعي
دعا باحثون وخبراء إلى تبني نظام موحّد لتواريخ الصلاحية، يفرّق بوضوح بين جودة المنتج وسلامته، وقد اقترحت بعض الجهات الأمريكية اعتماد صيغة "الأفضل إذا استُهلك قبل" للجودة، و "يُستخدم قبل" للسلامة، لكنها لا تزال توصية اختيارية وليست تشريعاً ملزماً.
أما في بريطانيا، فأطلقت حملات توعوية تحثّ المستهلكين على استخدام حواسهم في تقييم الطعام، تحت شعار "انظر، شم، تذوّق، لا تهدر"، وهي خطوة نحو استعادة الثقة في القدرة البشرية على تمييز الطعام الصالح.
حان الوقت لتغيير المفاهيم
التعامل مع الطعام بوصفه مورداً طبيعياً ثميناً لا يقل أهمية عن الماء والهواء، هو بداية الحل، تقليل الاعتماد على الملصقات، وتعزيز ثقافة التقييم الذاتي، سيؤديان إلى خفض معدلات الهدر، وتحقيق عدالة غذائية أكبر.
الاحتفاظ بالطعام فترة قصيرة بعد تاريخ الصلاحية لا يشكل خطراً في معظم الحالات. بعض الاستثناءات – مثل اللحوم الباردة والسلطات الجاهزة – يجب التعامل معها بحذر، لكن لا ينبغي أن تتحول هذه الحالات الخاصة إلى مبرر للهدر الجماعي.
مستقبل مستدام يبدأ من المطبخ
من الممكن التحقق من صلاحية بعض الأطعمة بسهولة، فالبيض، مثلاً، يمكن اختباره بوضعه في كأس ماء، إذا غاص فهو جيد. أما الحليب المبستر، فيبقى صالحاً ما دام مذاقه ورائحته طبيعيين.
في النهاية، المطلوب ليس فقط تقنين تواريخ الصلاحية، بل تغيير العقلية. التقدير الحقيقي للطعام يبدأ من فهم قيمته، واحترام عمره، والتوقف عن الانقياد الأعمى وراء أرقام قد تكون مضللة.