
المرتزقة الأجانب وقود حرب أوكرانيا
بعد بدء الغزو الروسي لأوكرانيا بنحو ثمانية أشهر أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التعبئة العسكرية الجزئية في سبتمبر (أيلول) 2022، مستدعياً 300 ألف جندي احتياط إلى الخدمة العسكرية فوراً، مما أثار استياء المواطنين الروس الذين خرجوا للاحتجاج علناً ضد القرار الأول من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية.
جاء القرار آنذاك بعد أسابيع من التقهقر الروسي في أوكرانيا وخسارة مناطق شاسعة، حين أفادت تقارير عن خسائر ونقص في الأفراد لدى القوات الروسية، وفي الأشهر التالية اتجه الكرملين إلى حل يجنبه الصدام والاستياء الداخلي ويعوض النقص العددي في صفوف قواته من خلال اللجوء إلى تجنيد مرتزقة أجانب، وبدا أن موسكو ذهبت على قدم وساق إلى هذا الحل خلال عامي 2023و2024.
وقبل أشهر أثير الجدل في شأن إرسال كوريا الشمالية جنوداً لدعم القوات الروسية في أوكرانيا، ووسط فورة التقارير الصحافية وتنديد المسؤولين الغربيين لم تؤكد بيونغ يانغ أو تنفِ تلك التقارير، واكتفى نائب وزير خارجيتها بالقول "إذا كان ما تتحدث عنه وسائل الإعلام الدولية صحيحاً، فأعتقد أنه سيكون متوافقاً مع أحكام القانون الدولي"، وإذا كان ثمة جنود أجانب يقاتلون إلى جانب الجنود الروس في أوكرانيا بموجب مهمة رسمية من حكومة بلدهم، فثمة آلاف آخرين من عشرات الدول حول العالم جندتهم موسكو كمرتزقة.
وأخيراً، نشر حساب على منصة "تيك توك" باسم "الرسول ديمتريو" لشخص يقول إنه صحافي أوكراني يدعى ديميتري كاربينكو، يجري سلسلة مقابلات مع من يدعى أنهم أسرى حرب أجانب لدى الجيش الأوكراني اعتُقلوا من ساحات القتال، ومن بين هؤلاء أشخاص من جنسيات عربية، المحاور الأوكراني يشدد في لقاءاته مع الأسرى على ضرورة عدم الكشف عن المكان الذي يوجدون فيه.
أسرى حرب من اليمن ومصر
وفي فيديو منشور في يناير (كانون الثاني) الماضي، ظهر شابان يمنيان أحدهما من محافظة تعز وآخر من إب كان يقيم في سلطنة عمان، وقد أُسر الشابان من قبل قوات الجيش الأوكراني، وفق قناة "يوتيوب" وحساب "تيك توك" الخاص بالمدون الأوكراني، الشابان تجمعهما ظروف مادية سيئة وكلاهما توقف عند شهادة التعليم الثانوي واتجه إلى العمل لدعم عائلته في النفقات المعيشية، وكلاهما سافر إلى روسيا من طريق وسطاء أوهموه بالعمل في مزرعة أو في البناء والتشييد مقابل 2500 دولار شهرياً، قبل أن يكتشفا أنهما وقعا على عقود مع الجيش الروسي وأنهما مضطران إلى الذهاب إلى ساحات القتال في أوكرانيا.
كما أن اثنين من الرهائن الذين ظهروا في لقاءات ديميتري كاربينكو على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي مصريان، أحدهما ضيف أساس في لقاءاته المصورة مع الرهائن المتحدثين بالعربية، إذ يقوم بدور المترجم، فيما الشاب الآخر ويدعى محمد من محافظة قنا بصعيد مصر، وفي فيديو مدته ساعة منشور بتاريخ الـ17 من فبراير (شباط) الجاري، أجرى كاربينكو مقابلة تشبه التحقيقات الشرطية مع محمد، وسمح له بإجراء مكالمة هاتفية مع والدته شريطة أن تكون عبر الفيديو وأن تظهر الأم في الفيديو المنشور بحساب كاربينكو على "يوتيوب".
ووفق رواية الشاب المصري، فإنه سافر إلى روسيا للدراسة في ديسمبر (كانون الأول) 2021، لكنه تعثر في دفع نفقات الجامعة واضطر إلى ترك الدراسة والاتجاه للعمل، ومن ثم أُلغيت تأشيرة دراسته بعد فصله من الجامعة، ومع عدم وجود إقامة قانونية والعمل كسائق توصيل خاص، تورط الشاب المصري في معاملة غير قانونية أدت به إلى السجن، ومن هناك جُند من قبل الحكومة الروسية التي عرضت عليه توقيع عقد مع الجيش الروسي والحصول على الجنسية الروسية مقابل شطب قضيته الجنائية، ما وجده محمد فرصة للتخلص من السجن، وكغيره ممن تحدثوا للمدون الأوكراني، فإنه لم يكن يعلم أنه سينتشر في الخطوط الأمامية في القتال داخل أوكرانيا، حيث وقع أسير حرب بيد القوات الأوكرانية.
خلال حديثه لوالدته، عندما كررت الأم سؤالها في شأن الإفراج عن ابنها ومتي يمكنه العودة إلى مصر، بادر المحاور الأوكراني بالرد أن نجلها يرتبط بعقد مع روسيا، وأنه لا يمكن الإفراج عنه حتى تنتهي الحرب، كما بدا الشاب آملاً في صفقة تبادل أسرى يُفرج بموجبها عنه، وعند لحظة ما بدا الشاب متردداً في شأن العودة لبلده، إذ زعمت مصادر أخرى أنه ربما تنازل عن الجنسية المصرية مقابل الروسية.
ووفق مركز تحليل السياسات الأوروبي في واشنطن، فإن نشر المرتزقة على نحو متزايد يتعلق بالطريقة التي جندت بها روسيا نحو 100 ألف من المدانين، بوعد العفو عنهم في مقابل خدمتهم على الخطوط الأمامية، وساعد المرتزقة روسيا على تأخير مزيد من التعبئة وتجنب ردود الفعل العنيفة من الشعب الروسي.
مواطنو الدول الفقيرة
ويبدو أن أكثر ما استهدفهم الكرملين للتجنيد ضمن صفوفه كانوا مواطنين من بلدان فقيرة، أو بلدان تضج بالصراعات، ففي مارس (آذار) 2024 حثت كييف دول الجنوب العالمي على اتخاذ إجراءات كافية لمنع تجنيد مواطنيهم للقتال في أوكرانيا، كاشفة خلال مؤتمر صحافي عن ثمانية سجناء حضروا المؤتمر، كانوا أُسروا من ساحة القتال بينهم أشخاص من نيبال وكوبا والصومال وسيراليون، وفي وقت سابق من العام الماضي قالت الهند إنها كشفت عن شبكة تهريب كبرى كانت تغري الشباب بقبول وظائف في روسيا قبل إرسالهم إلى الجبهة.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2023أعلنت نيبال أنها طلبت من موسكو عدم تجنيد مواطنيها في الجيش الروسي وإعادة أي جندي نيبالي يخدم هناك، وفيما لا توجد أرقام موثوقة عن عدد المجندين، لكن تشير التقديرات النيبالية إلى أن العدد ربما يبلغ 15 ألف شخص، ووجه المدعون الجنائيون في نيبال تهماً إلى 10 أشخاص بالعمل كمهربين للبشر لمصلحة روسيا.
وقد أزعجت ممارسات التجنيد الروسية حتى حلفاء مثل الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش، الذي طلب من موسكو عام 2023 التوقف عن محاولة تجنيد الصرب في الجيش الروسي ومجموعة فاغنر عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
والخميس، نشرت إذاعة راديو أوروبا الحرة لقاءً مصوراً على موقعها الإلكتروني مع شاب كوبي يدعى فرانك داريو جاروساي مانفوغا من داخل مكان أسره في أوكرانيا، حيث قُبض عليه أثناء القتال لمصلحة الجيش الروسي، ويدعي الشاب أنه خدع للذهاب إلى روسيا بوعد بوظيفة في مجال البناء والتشييد، وهي الرواية التي تتفق مع روايات آخرين في شأن كيفية تجنيد روسيا الأجانب، واستهداف الكوبيين من بين آخرين بوعود برواتب عالية.
ووفق التقرير فإن هناك ما يقدر بنحو 5 آلاف مرتزق كوبي بين المقاتلين الأجانب في أوكرانيا، الذين ذهبوا بسبب الصعوبات الاقتصادية في بلدهم، وإضافة إلى ذلك ربما تؤدي العلاقات الطويلة الأمد بين كوبا وروسيا دوراً، ففي حين تزعم هافانا أنها لا تدعم تجنيد المرتزقة الأجانب، فقد دعم الرئيس الكوبي ميغيل دياز كانيل علناً الغزو الروسي لأوكرانيا.
وكان تقرير سابق لوكالة "رويترز" أفاد بأن الكوبيين الذين جُندوا لمشاريع البناء، الذين تم إغراؤهم بعقود مربحة تبلغ قيمتها أضعاف أجورهم الشهرية، وجدوا أنفسهم يحفرون خنادق في شرق أوكرانيا، وفي سبتمبر (أيلول) 2023اعتقلت كوبا 17 عضواً في عصابة للاتجار بالبشر، قالت إنها ساعدت على تجنيد شباب ونقلهم للقتال في أوكرانيا.
سوريون وآخرون في صفوف أوكرانيا
ومع ذلك فإن المرتزقة الأجانب لا يعملون في جانب القوات الروسية فحسب، إذ استعانت أوكرانيا بكثير من الأجانب الذين وصفتهم مراكز الأبحاث والصحف الغربية بـ"المتطوعين"، ففور اندلاع الحرب في فبراير 2022، دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأجانب ممن "يدعمون السلام والديمقراطية" للسفر إلى بلاده والقتال إلى جانب القوات الأوكرانية ضد روسيا، تلك الدعوة أعادت إلى الأذهان آنذاك، التدخل الدولي في الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن الـ20، وكان الأمر غير مسبوق في الحروب الحديثة.
وتضمن تقرير لوزارة الدفاع الروسية في أواخر عام 2022، بيانات بأعداد المرتزقة الأجانب في صفوف القوات الأوكرانية، الذين جاءوا من أكثر من 60 بلداً حول العالم بما في ذلك سوريا وتركيا وإسرائيل وإيران، وتظهر البيانات أن أكثر من 13 ألف شخص أجنبي يقاتلون في صفوف القوات الأوكرانية، فيما بلغ عدد المقتولين في ساحة الحرب نحو 6 آلاف شخص بما في ذلك 80 سورياً و19 تركياً و9إسرائيليين، إضافة إلى وقوع العشرات في قبضة القوات الروسية.
وتشير البيانات الروسية إلى أن بولندا، جارة أوكرانيا الغربية، التي كانت من أقوى المؤيدين لكييف أثناء الصراع، قدمت أكبر عدد من المرتزقة، إذ بلغ عددهم 2960، وقتل أكثر من نصف هؤلاء، أي نحو 1497 مواطناً بولندياً أثناء الأعمال العدائية.
وفي ورقة بحثية صدرت أواخر عام 2022، ذكرت المؤسسة الجورجية للدراسات الدولية والاستراتيجية، في تبليسي عاصمة جورجيا، أنه مع توسع الحرب بين روسيا وأوكرانيا أعرب مئات وربما آلاف المتطوعين من جميع أنحاء العالم عن رغبتهم في القتال إلى جانب أوكرانيا، وأشارت إلى أن "المتطوعين" الأجانب ساعدوا أيضاً القوات المسلحة الأوكرانية في صراع دونباس عام 2014، إلا أن الحرب الحالية زادت من حشد المقاتلين الأجانب، وأشارت المؤسسة إلى أن المقاتلين الأجانب يختلفون عن المرتزقة في أن دوافعهم الرئيسة هي الأيديولوجية والدين أو العرق والدين، لا المنفعة المادية، وأنه جنباً إلى جنب مع تطور تكنولوجيا المعلومات وتبسيط التنقل بين البلدان، زاد عدد المقاتلين الأجانب ونطاق تعبئتهم في العالم.
ووفق مراجعة أمنية نشرتها المؤسسة الجورجية، فإنه إضافة إلى القادمين من بلدان سوفياتية سابقة مثل جورجيا وبيلاروس، اجتذبت الحرب الروسية - الأوكرانية عدداً كبيراً من "المتطوعين" من أوروبا وأميركا الشمالية، وأبرزهم من بريطانيا وكندا والولايات المتحدة، ففي الأسابيع الأولى من الحرب في أوكرانيا شارك القناص الكندي الشهير "والي" في القتال، إضافة إلى ذلك كان هناك عدد كبير إلى حد ما من "المتطوعين" من أوروبا الشرقية.
وتضيف أن المقاتلين الغربيين يشاركون في القتال في مناطق مختلفة بما في ذلك الأعمال العدائية في دونباس، كذلك شارك متطوعون بريطانيون في معركة أزوفستال في ماريوبول، وقد قُبض على اثنين منهم وحكم عليهما بالإعدام من قبل منظمة انفصالية في جمهورية دونيتسك الشعبية، ويشمل "المتطوعون" الغربيون كلاً من الجنود المحترفين السابقين والمتعاطفين الذين دافعهم الأساس هو القتال ضد روسيا.
وأكدت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، في تقرير الأسبوع الماضي، تدفق الآلاف من "المتطوعين" إلى أوكرانيا في الأيام الأولى من الحرب، بما في ذلك المحاربون القدامى الأميركيون والأوروبيون، للقتال من أجل الديمقراطية أو غيرها من الأسباب غير المادية، ومع ذلك تشير إلى أن عدد الغربيين تقلص مع تحول الحرب إلى معركة شاقة.