
لبنان يخوض رهان الدبلوماسية بعد الحرب والسلاح
بموقف موحد وضمن مشهدية لم يعتدها اللبنانيون في تاريخهم الحديث، خرج بيان رسمي بعد لقاء ثلاثي جمع في قصر بعبدا رئيس الجمهورية جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام ورئيس البرلمان نبيه بري، أكدوا ضمنه "ضرورة الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي اللبنانية المحتلة، التزاماً بالمواثيق والشرع الدولية وبقرارات الأمم المتحدة وفي مقدمتها القرار 1701"، مشددين على "تقيد لبنان الكامل بهذا القرار بكامل مندرجاته وبلا أي استثناء".
واستكمالاً لهذا البيان، صدر موقف علني عن الرئيس عون وفيه أن "لبنان يواصل اتصالاته الدبلوماسية مع أميركا وفرنسا لاستكمال انسحاب إسرائيل مما بقي من الأراضي التي احتلتها خلال الحرب الأخيرة، والقرار اللبناني موحد في اعتماد الخيار الدبلوماسي لأن لا أحد يريد الحرب، بل الدولة"، داعياً إلى مقاربة التطورات بروية من دون تشنج ولا تخوين باعتبار أن اللبنانيين سئموا العيش بين المتاريس بعدما دفعوا الثمن غالياً.
وما بين البيان الثلاثي وكلام عون عن رفض الحرب واعتماد الدبلوماسية، بات واضحاً أن خيار لبنان لمواجهة إسرائيل سيكون من خلال كواليس صنع القرار في العواصم العربية والغربية الكبرى للضغط دبلوماسياً على تل أبيب وصولاً إلى سحبها جميع القوات الإسرائيلية من المواقع الخمسة التي لا تزال موجودة فيها.
بين نقاط قوة الدبلوماسية والواقعية
في قراءة موضوعية لمسار الحرب الأخيرة بين إسرائيل و"حزب الله" ومن دون الحاجة إلى الإطالة، نصل إلى نتيجة واضحة وهي أن سلاح الحزب الذي كثيراً ما تفاخر مسؤولوه بأنه "الأقوى" في المنطقة لم يكُن قوياً كفاية لمنع إسرائيل من دخول جنوب لبنان واحتلال أراضٍ، بل أكثر من ذلك تؤكد التقارير العسكرية أن هذا السلاح وبما يتضمنه من صواريخ ثقيلة ومتوسطة دُمّر القسم الأكبر منه خلال الأشهر الأخيرة من الحرب.
وبذلك تبدو الدولة اللبنانية اليوم وكأنها تحاول ترميم ما فعله "حزب الله" بدءاً من اتخاذ قرار دخول الحرب منفرداً لمساندة غزة، مروراً بـ"تعنته" وفتح حرب لم يكُن هو ولا حتى لبنان قادرين على الاستمرار بها، وصولاً إلى الإصرار على المضي بها على رغم الأضرار الكبيرة وغير المسبوقة التي خلفتها بشرياً ومادياً.
وفي المحصلة السلاح لم يحمِ الجنوب ولا لبنان، أما الرهان اليوم فهو على قوة الدبلوماسية التي سيعتمدها العهد الجديد في البلاد، لمعطيات عدة:
أولاً، رئيس الجمهورية جوزاف عون أتى بدعم وزخم عربي ودولي كبيرين وباعتراف الجميع، مما يعني أن الدول الكبرى التي دعمت وصوله ثم دعمت وصول نواف سلام إلى السراي الحكومي، لن تقبل أن يصار إلى إفشال هذا العهد الجديد، وما بقاء القوات الإسرائيلية جنوباً إلا ضرب فشل مباشر له.
ثم إن حضور رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو "الأخ" الأكبر للحزب وحليفه التاريخي، اللقاءات الثلاثية في قصر بعبدا يأتي بمثابة إعلان واضح وصريح أن المعركة اليوم هي للدبلوماسية وليس للسلاح.
ثانياً، صحيح أن إسرائيل لم تنسحب من جنوب لبنان أول من أمس الثلاثاء وهو الموعد الذي على أساسه مددت مهلة الانسحاب من الـ27 من يناير (كانون الثاني) الماضي، لكن بقاء قواتها ليس أمراً محتماً، وهنا تطرح تساؤلات حول ما إذا كان قرار خروجها سيتم بعد تشييع الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصرالله الأحد المقبل، باعتبار أنها لن تهدي الحزب "انتصار" التشييع من دون وجودها في الأراضي اللبنانية.
ثالثاً، الرفض الغربي، والفرنسي تحديداً، واضح وضاغط في إطار رفض بقاء القوات الإسرائيلية جنوب لبنان، وفي هذا السياق صدر بيان مشترك عن المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان جينين هينيس- بلاسخارت ورئيس بعثة "يونيفيل" وقائدها العام الجنرال أرولدو لازارو اعتبرا ضمنه أن أي تأخير آخر في عملية الانسحاب الإسرائيلي "يناقض ما كنا نأمل في حدوثه، لا سيما أنه يشكل انتهاكاً مستمراً لقرار مجلس الأمن الدولي 1701".
أيضاً شددت فرنسا عبر بيان صادر عن وزارة خارجيتها على ضرورة الانسحاب الكامل للجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية في أقرب وقت ممكن، وفقاً لأحكام اتفاق وقف إطلاق النار.
رابعاً وأخيراً، الرسائل الداخلية التي خرجت أخيراً تؤكد أن لبنان ماضٍ وبجدية في تطبيق القرارات الدولية والعبور من منطق الدويلة إلى منطق الدولة، ومن بينها استكمال الانتشار في الجنوب وعدم المخاطرة بأمن الداخل ومن ضمنه منع وصول المساعدات المالية إلى "حزب الله" عبر مطار بيروت من خلال الطائرات الإيرانية، ناهيك عن ملاحقة المتورطين بالاعتداء على سيارة "يونيفيل" على طريق المطار وتوقيفهم، حتى إن كانوا في وسط الضاحية الجنوبية لبيروت، مما لم يكُن يحصل في السابق.
هذه الرسائل والخطوات التي تعزز من مكانة الدولة وقوتها ستضع بيروت في موقف قوي بوجه تل أبيب باعتبار أن الأخيرة ستخسر حججها تباعاً للبقاء في جنوب البلاد.
المتغيرات الكبرى
يأتي الرهان اللبناني على الدبلوماسية ورفض الحرب وسط متغيرات لبنانية وإقليمية كبرى بدلت خلال أشهر قليلة وجه الشرق الأوسط ومستقبله، ومن جملة المتغيرات لبنانياً انتخاب قائد الجيش جوزاف عون رئيساً وتكليف نواف سلام تشكيل الحكومة وإسقاط البيان الوزاري كلمة "المقاومة" وهي من المسلمات بالنسبة إلى "حزب الله" وكذلك "الثلث المعطل" الذي واكب التشكيلات الحكومية منذ اتفاق الدوحة عام 2008، وكل هذه المتغيرات تعزز من توازن القوى الجديد داخل تركيبة السلطة اللبنانية.
فيما إقليمياً شهدت المنطقة تطورات جذرية طاولت نتائجها النفوذ الإيراني وأبرزها سقوط نظام بشار الأسد في سوريا مع ما يعنيه بالنسبة إلى محور "الممانعة"، مما استدعى على المستوى اللبناني بصورة أو بأخرى فك الارتباط بهذا المحور الذي كان قائماً لعقود بين طهران والضاحية الجنوبية لبيروت.
وفي نتيجة مباشرة لفك الارتباط هذا منعت طائرة إيرانية من الهبوط في مطار رفيق الحريري الدولي بعد تهديدات إسرائيلية باستهدافها أو استهداف المطار، وعلقت بيروت جميع الرحلات الوافدة من طهران إلى أجل غير مسمى.
تطورات داخلية إيجابية... ولكن
يعي الجميع أن الإسرائيلي ولو عادت له لما خرج من أي متر أرض دخله في الجنوب، وهو الذي يتفاخر بعض مسؤوليه بأن لبنان جزء من أرض "إسرائيل الكبرى" الموعودة، لكنه لن يستطيع تجاهل الضغوط الداخلية اللبنانية والدولية كثيراً بالبقاء حيث ينتشر اليوم.
وفي المقابل، يتطلب إقفال الباب على الخيار العسكري وإطلاق المسار الدبلوماسي حتماً إجراءات داخلية لا بد منها، خصوصاً أن المجتمع الدولي يطالب لبنان علانية بإنهاء مظاهر السلاح غير الشرعي ليس فقط جنوب نهر الليطاني بل في كل الأراضي اللبنانية، ومن ضمن هذا السلاح ترسانة "حزب الله".
بالتالي، إذا لم تطبق كل بنود الاتفاق الذي أنهى الحرب بين إسرائيل والحزب في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2024، ومن ضمنها حصر السلاح بيد الدولة في كامل التراب اللبناني، فالمجتمع الدولي لن يضغط مع لبنان على إسرائيل للخروج من حيث هي اليوم، ومما يعزز هذا السيناريو قرار الإدارة الأميركية بإيقاف كل المساعدات المالية إلى لبنان، باستثناء التي تصل إلى الجيش، بانتظار ما قيل إنها "إنجازات" ملموسة من قبل الجانب اللبناني، والجميع يعلم ما هي هذه الإنجازات المطلوبة.
خيارات "حزب الله"... أحلاها مر
أمام هذا الواقع وتفوق المساعي الدبلوماسية على تلك العسكرية بقرار لبناني موحد، يجد "حزب الله"، الذي تأسس عام 1982 بقوة السلاح واستمر من خلالها أكثر من أربعة عقود، نفسه أمام خيارات عدة أحلاها مر، وهو الذي وقع على اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعطى الحق لإسرائيل بتنفيذ ما تجده "مناسباً" برأيها من عمليات في الداخل اللبناني.
ومن الخيارات التي يقف أمامها الحزب اليوم أولاً انتظار ما ستؤول إليه المساعي الدبلوماسية القائمة راهناً وترقب الأسابيع المقبلة، علماً أنه لا يزال يتعرض يومياً لضربات إسرائيلية مباشرة يصل بعضها إلى أقصى الشرق والشمال.
والخيار الثاني هو الدخول تدريجاً في مسار سحب السلاح وتسليمه إلى الجيش اللبناني، بخاصة إن أعطي ضمانات داخلية كتلك التي تصدر في تصريحات رئيس الجمهورية بأن الطائفة الشيعية ليست محاصرة أو مستهدفة. وإن كان هذا الخيار سيأخذ وقتاً يمتد لأعوام ربما، لكن الحزب قد يصل في مرحلة ليست بعيدة إلى قناعة تسليم هذا السلاح مع الهزائم الأمنية والمادية والبشرية واليوم السياسية الكبيرة التي لحقت به، فيما المحور الذي كان يسانده سياسياً ومادياً أقفلت جميع أبوابه ومنافذه وحتى "مدارجه" باتجاه الداخل اللبناني.
أما الخيار الثالث والأخير، وإن كان مستبعداً نظراً إلى وضع الحزب عسكرياً ولوجستياً، فهو إعادة إطلاق معركة الجنوب من جانب الحزب في محاولة لإخراج ما بقي من قوات إسرائيلية عند التلال الاستراتيجية اللبنانية، وهذا خيار سيصيب الحزب في مقتل بإجماع الحلفاء قبل الخصوم.