Image

السودان وتشاد... إرث العداء وتحالف الهشاشة

على رغم الحدود المشتركة والتقارب الإثني في المنطقة الجغرافية الفاصلة بين السودان وتشاد، فإنهما لم يتوافقا على علاقات مستقرة، فمنذ استقلال البلدين تضرب علاقاتهما اتهامات بدعم نظام كل منهما معارضة الآخر، ويزداد الاضطراب في حال النزاعات داخل كل منهما، خلال حرب دارفور وصراع النظام التشادي مع المعارضة منذ عهد الرئيس السابق إدريس ديبي، الذي أدى إلى مقتله في الـ20 من أبريل (نيسان) 2021، ثم الحرب السودانية الحالية منذ أبريل 2023، كلها نقاط توتر متجددة، إذ تزيد الاتهامات وتتسع الهوة وتضيق نقاط التلاقي والاتفاق.

مرت العلاقة بمطبات كثيرة إلى أن وصلت إلى اتهام تشاد السودان بتسهيل وصول تعزيزات عسكرية من المعارضة التشادية إلى بلدة الطينة السودانية الحدودية بهدف شن هجمات وشيكة على تشاد، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 اتهمت تشاد الجيش السوداني بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان بالضلوع في مقتل الرئيس السابق إدريس ديبي، وجاء ذلك رداً على اتهام السودان تشاد بدعم قوات "الدعم السريع" في حربها مع الجيش السوداني، إذ يتضح أن دعم الأطراف المعارضة يُستخدم كورقة ضغط وفق مقتضيات الخلاف ودرجة التوتر في العلاقات.كل هذه التموجات تتم على سطح تداخلات قبلية ساخنة، ونقاط حدودية ملتهبة، كعوامل مؤثرة في العلاقات الثنائية، لا سيما مع حركة اللجوء خلال النزاعات خصوصاً الحرب الحالية، مما فرض تحديات أمنية وإنسانية كبيرة، ومع ذلك، كان لكل من السودان وتشاد دورهما في الوساطة من أجل حل النزاعات، واستضافة كل منهما لاجئي الطرف الآخر، وتنسيق الجهود لمكافحة التهديدات العابرة للحدود مثل تهريب وتجارة البشر.

تاريخ من التوترات

مرت العلاقة بين السودان وتشاد بكثير من التوترات والاضطرابات، فمنذ استقلال تشاد عن فرنسا عام 1960، تأرجحت بين زعماء عرب مسلمين من الشمال وجماعات مسيحية جنوبية من جنوب الصحراء الكبرى، وكان كل تغيير للنظام تتبعه ثورة مضادة، وتنعكس آثار ذلك على السودان، وخلال ثلاث حقب رئاسية لاحقة لم تخلُ أيضاً من التحالفات والتوازنات السياسية، منذ عهد الرئيس التشادي السابق حسين حبري، الذي حكم تشاد في حقبة الثمانينيات بعد تنفيذ انقلاب عسكري على الرئيس كوكوني عويدي عام 1982، ظلت العلاقات بين السودان وتشاد عرضة للتوتر والتقلبات الحادة، متأثرة بالعوامل السياسية والأمنية والإقليمية، لا سيما في ظل الحروب الأهلية والتحالفات المتغيرة في المنطقة، ومنها انعكاس حربها مع ليبيا حين سعى العقيد معمر القذافي إلى السيطرة على شريط أوزو الحدودي بينهما، لكن فرنسا والولايات المتحدة دعمتا حبري في حربه ضد ليبيا في استعادة المنطقة، ثم حكمت محكمة العدل الدولية لمصلحة تشاد عام 1994، واتهم حبري السودان بإيواء ودعم الحركات المسلحة المعارضة لنظامه، خصوصاً الجماعات الموالية لعويدي، بينما دعمت حكومته الحركات المسلحة في دارفور.أما في عهد الرئيس إدريس ديبي الذي تسلم السلطة في تشاد عام 1990 بعد إطاحته حبري، فقد بدأت بالتقارب والتعاون حين وفر نظام الرئيس عمر البشير ملاذاً لقواته المعارضة، ومع ذلك، شاب علاقته بالسودان تقلب بين التعاون والصراع، ومحاولات التوازن بحسب ما تقتضيه ظروف الصراعات الداخلية في كلا البلدين، ولكن مع اندلاع الحرب في دارفور عام 2003 تصاعدت التوترات مع نظام ديبي واتهمت تشاد السودان بتدبير هجوم على مدينة الطينة الحدودية، في حين اتهم السودان تشاد بالتورط في صراع دارفور، ودعم الحركات المسلحة خصوصاً "حركة العدل والمساواة"، واتهمت تشاد السودان بدعم المعارضة التشادية، وعلى رأسها "الجبهة الموحدة للتغيير الديمقراطي" التي شنت هجمات على العاصمة التشادية نجامينا عامي 2006 و2008. وأخذ الوضع منعطفاً دراماتيكياً في الـ10 من مايو (أيار) 2008، عندما نفذت "حركة العدل والمساواة" الدارفورية هجومها على العاصمة الوطنية أم درمان، واتهمت الخرطوم نجامينا بدعم هجوم الحركة، في حين ردت تشاد باتهام السودان بالسماح للمتمردين التشاديين بشن هجمات من أراضيها.

وقعت اتفاقات منها "اتفاق مكة" عام 2007، و"اتفاق دكار" عام 2008، و"اتفاق الدوحة" عام 2009، تحسنت العلاقات بين البلدين ودخلا في تعاون أمني واستخباراتي منذ عام 2010، استمر بعد سقوط نظام البشير حتى وفاة ديبي عام 2021.

تحالف موروث

بمقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي، دخلت العلاقة بين البلدين مرحلة جديدة مع قيادة نجله محمد إدريس ديبي (كاكا)، متأثرة بالأحداث السياسية والأمنية في البلدين، إذ استمر التنسيق في الملفات الأمنية، بخاصة في ما يتعلق بمراقبة الحدود المشتركة والتصدي للجماعات المسلحة.

وورث ديبي الابن تحالفاً سياسياً أسسه والده من قبيلة الزغاوة التي ينتمي إليها وبعض القبائل العربية وإثنية التبو، ومجموعات أخرى من الجنوب التشادي، كان إدريس ديبي ينفق معظم عائدات النفط لتعزيز دعمه بين الزغاوة، وفي الإنفاق العسكري لدحر المعارضة المسلحة.ومع اندلاع النزاع المسلح بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع"، اتخذت تشاد موقفاً محايداً أقرب إلى الحذر، ولكن بعد ذلك، اتهمت الحكومة السودانية تشاد بدعم قوات "الدعم السريع" في ارتكاب جرائم، بما في ذلك الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وزعمت أن نجامينا سمحت باستخدام حدودها ومهابطها لتسهيل حركة السلاح والمرتزقة من غرب أفريقيا للانضمام إلى الصراع.

نفت تشاد هذه الادعاءات بشدة، وقالت إن لا أساس لها من الصحة وتعوق جهود السلام، وردت الاتهام للسودان بأنه يرعى تاريخاً طويلاً من زعزعة استقرار تشاد من خلال دعم الجماعات المتمردة، كما اتهمت الجيش السوداني بلعب دور رئيس في اغتيال إدريس ديبي، عبر تمويل وتسليح المعارضة التشادية.كذلك اتهمت النظام السوداني بأنه شكل وسلح قوة متمردة تشادية تتكون من 600 معدة قتالية، وضعت تحت قيادة عبدالباقي حمد، زعيم "الحركة الشعبية لتشاد"، وهي جماعة متمردة تدعو إلى التناوب السياسي في البلاد، وذكر أنه التقى الجنرال عبدالفتاح البرهان وزعماء الحركات المسلحة في دارفور، وأبرزهم زعيم حركة "العدل والمساواة" جبريل إبراهيم، وزعيم "حركة تحرير السودان" مني أركو مناوي.

أولويات دبلوماسية

تعكس السياسة الداخلية التشادية نهج النظام الحاكم، وما يمكن أن تسفر عنه تحركات الحكومة في الفترة المقبلة، فقد أعاد الرئيس محمد ديبي تعيين اللماي هالينا، رئيساً للوزراء، بعد استقالة الأخير في إجراء بروتوكولي يتعلق بتقاليد الحكم "يهدف إلى إتاحة الفرصة للرئيس لإعادة تشكيل الحكومة بما يتوافق مع التوازنات السياسية الجديدة"، مما يعكس استمرار السياسة ذاتها تجاه السودان.

 كما استُبعد وزير الخارجية والمتحدث الرسمي السابق، عبدالرحمن غلام الله وعُين عبدالله صابر فضل بدلاً منه، إذ كان الأول شخصية رئيسة في القرارات الدبلوماسية الحاسمة، لا سيما ما يتعلق بملف إنهاء الاتفاقات العسكرية مع فرنسا، والتي مثلت تحولاً إستراتيجياً في علاقة نجامينا بباريس.

ويرى مراقبون أن إبعاده قد يكون إشارة إلى تحول في السياسة الخارجية، ربما نحو موقف أكثر مرونةً تجاه فرنسا أو إعادة ترتيب الأولويات الدبلوماسية، كذلك اتُّهم غلام الله بسوء إدارة التواصل خلال الهجوم على القصر الرئاسي يناير (كانون الثاني) الماضي، مما عجّل بإبعاده عن الحكومة. أما عبدالله صابر فضل فاستُند إلى خبرته السابقة وخدمته النظام مع الرئيس ديبي الأب، وأُجريت بعض التعديلات المهمة في أجهزة النظام، ذُكر أنها تعكس الهيمنة المستمرة للحزب الحاكم على السلطة في تشاد، بمنح كثير من المناصب الحساسة لأعضائه.وعلى رغم جهود ديبي لإيجاد التوازن، تسببت التوترات الإثنية بعدد من الأحداث داخل الجيش، مثل الانشقاقات والخلافات بين الضباط العرب والزغاوة، التي تكررت في عهد ديبي الابن، ما من شأنه خلق بيئة احتكاكات تمتد إلى الحلفاء في السودان.

وعلى مستوى الجماعات الإثنية أبدت إثنية الزغاوة خصوصاً في الأجهزة العسكرية والأمنية التشادية قلقاً متزايداً في شأن العواقب التي قد تخلفها النزاعات على أقاربهم في دارفور، أما المجموعات العربية التي استقطبها ديبي الأب إلى نظامه، وظلت متحالفة مع ابنه فتشعر بمزيد من التعاطف مع "الدعم السريع"، ومن هنا تشكل الانقسام في الساحة السياسية التشادية متأثراً بالحرب في السودان.

زعزعة إقليمية

فور اندلاع الحرب في السودان وجدت تشاد نفسها في قلب الأزمة الإنسانية الناجمة عن الصراع السوداني بسبب قربها من دارفور، والروابط المجتمعية والأسرية على جانبي الحدود، أغلقت تشاد حدودها البالغ طولها 1400 كيلومتر مع السودان في بداية الحرب موقتاً لتنظيم مرور اللاجئين ومنع حمَلَة السلاح، وقدرت المفوضية السامية للاجئين أن عدد الأشخاص الذين عبروا إلى تشاد حتى عام 2024 هم أكثر من 930 ألف شخص، أي ما يقارب 40 في المئة من مجموع الفارين من الحرب، أكثر من ثلثيهم لاجئون سودانيون، إضافة إلى العائدين التشاديين إلى بلادهم.

تسلط الاتهامات المتبادلة بين السودان وتشاد وفق مزيج متقلب من العوامل المحلية والإقليمية والدولية التي تغذي الصراع، الضوء على أن الروابط بين البلدين استُخدمت كوقود خلال النزاعات، مما يخلق بيئة خصبة لزعزعة الاستقرار في المنطقة المهمة التي تعد معبراً إقليمياً يربط شرق أفريقيا بغربها وشمالها، ودولياً يربط القارة السمراء بأوروبا عبر البحر المتوسط، كذلك يشير إلى أن الأخطار لا تتعلق بظروف السودان أو تشاد فقط، وإنما بتاريخ سياسي لمجتمعات متداخلة، أصبحت عرضة للتهديدات الجيوسياسية، وأقرب حالة تفاعل لهذه العناصر هي أنه عندما اندلعت الأزمة السودانية تبنت معظم الحركات ذات الجذور الأفريقية، خصوصاً تلك الموقعة على "اتفاق جوبا للسلام 2020" مثل "حركة تحرير السودان" بقيادة مني أركو مناوي وحركة "العدل والمساواة" برئاسة جبريل إبراهيم، موقفاً متردداً في البداية، ولكنها انضمت لاحقاً إلى الجيش السوداني، ليس ترفعاً عن العصبية الإثنية، ولكن بسبب المحاصصات السياسية، وهي حسب تجارب الحركات نفسها منذ عهد النظام السابق تحالفات موقتة تعتمد على المدى الزمني لوجودهم في السلطة.

سيناريوهات محتملة

وفي ضوء تصعيد التوتر بين السودان وتشاد هناك سيناريوهات عدة للأحداث، الأول، يمكن أن يؤدي إلى نزاع عسكري لكن سيُحتوى في بداياته عبر الوساطات الدبلوماسية، فالمنطقة بين البلدين التي تعاني الفقر والتوترات الإثنية، تُصنَّف كمنطقة نشاط إنساني تسعى المنظمات الدولية فيها إلى الاستجابة لحاجات اللاجئين، ويزداد نشاطها كلما تفاقم الوضع في دارفور، وهي معرضة لتركيز دولي واسع.وفي السيناريو الثاني، قد تؤدي الحرب المتفاقمة في السودان إلى إضعاف النظام في تشاد، في ظل معاناته من أزمات سياسية وأمنية داخلية، مما يزيد من احتمال استهداف حكومة ديبي، بزيادة المشاعر المعادية بين الإثنيات الأفريقية والعربية.

ومع وجود انقسامات بين إثنية الزغاوة في تشاد، فقد تنشأ مجموعات معارضة مسلحة تلتحم مع الزغاوة في دارفور ممثلةً بالحركات المتحالفة مع الجيش السوداني، لتنخرط في صراع واسع مع النظام التشادي.والسيناريو الثالث، يتظهّر بدعم السودان للمتمردين التشاديين مما قد يستدعي رداً مباشراً من تشاد، ويفتح جبهة جديدة في الصراع السوداني، وتدخل جهات خارجية في الصراع مثل فرنسا لتأمين مصالحها الإستراتيجية في تشاد والمنطقة، مما قد يزيد من تعقيد المشهد بطلب الدعم من الدول الغربية، بينما قد يبحث السودان عن دعم من قوى أخرى، مما يخلق استقطاباً جيوسياسياً جديداً.