Image

نزوح عكسي في غزة... واقع العودة أسوأ من الحرب

يحزم توفيق حقائب أمتعته القليلة وينظر بخيبة أمل نحو منطقة بيت لاهيا في شمال غزة، ثم يقف على أطلال منزله قائلاً "عندما وصلت إلى المكان كان قلبي يخفق شوقاً، لكنني شعرت بأنني غريب فور وصولي، كنت تائهاً لا أفهم شيء، أنا آسف سأعود نحو جنوب القطاع".

قبل يومين غادر توفيق خيمة النزوح التي عاش فيها نحو 16 شهراً في منطقة المواصي جنوب غزة، وجهز نفسه من أجل العودة لشمال القطاع حيث مكان سكنه الأصلي وبيته المليء بالذكريات، ويقول "بفارغ الصبر كنت أنتظر أن تنتهي رحلة النزوح، وعندما انتهت صدمت من الواقع".

الواقع أصعب من المخيلة

حباً في حارته الشعبية وجيرانه، قطع توفيق نحو تسعة كيلومترات مشياً على الأقدام حتى وصل إلى بيت لاهيا، وفي الطريق رسم صورة في مخيلته لشكل الحياة مع الدمار الذي خلفه الجيش الإسرائيلي في شمال القطاع وحولها إلى منطقة منكوبة.

كان توفيق يحدث نفسه "سأرى منازل مهدمة وطرقات وعرة، وربما بقايا بيوت قائمة، كل ذلك هين، سأعيش ولو في خيمة أمام بيتي"، لكن الرجل عندما وصل إلى منطقته استنتج أن الوضع كارثي بكل تفاصيله، وأنه لا حياة في شمال غزة.

لم يعرف توفيق أين مكان بيته، جميع المنازل مدمرة وتداخلت على بعضها، لا شارع ولا طريق كل شيء عبارة عن أكوام من الركام هذا ما يراه العائد فقط، وعلى رغم ذلك قرر المبيت عند جيرانه ليختبر الحياة بصورة مبدئية.

نزوح عكسي

في أول يوم، لم يجد توفيق قطرة ماء يغسل بها وجهه في منطقة بيت لاهيا، ولا شجرة يستظل بها، ولا بيتاً يأويه، مضيفاً "لا يمكن السير على الطرقات ولا يوجد طعام جميع البيوت مدمرة، آبار المياه مطمورة بالركام، والأراضي الزراعية مجرفة".

لم يتمكن توفيق من السير على الطرقات، وفي اليوم التالي قرر النزوح العكسي، والعودة لمنطقة المواصي حيث خيمته القديمة التي عاش فيها طوال فترة الحرب، يوضح أنه خرج من دون نتيجة، على مدار يومين من اختباره الحياة في بيت لاهيا.

ويؤكد أنه حاول البحث عن خيمة إيواء، لكن الجهات الحكومية لم تتجاوب معه، ولذلك قرر مغادرة شمال غزة، وقال "عندما نجد مأوى وقليلاً من الخدمات سنفكر بالعودة من جديد لشمال غزة، هنا لا حياة سوى الموت وكلاهما متشابهان".

منطقة غير صالحة للحياة

لم يجد صابر في منطقة سكنه وسط مخيم جباليا بيته، إذ دمره الجيش الإسرائيلي وحوله إلى أنقاض، وباجتهاد أخذ يبحث عن قطعة أرض خالية من الركام ليقيم عليها خيمة تأوي عائلته، لكنه تعثر، وبيأس كان يبحث عن أي أمل في الحياة ويفعل ذلك من دون جدوى.

عاد صابر من المنطقة الإنسانية في جنوب غزة، وتوجه إلى بيته الجميل في شمال القطاع، يقول "وجدت كل شيء ركاماً، وبعد يوم واحد فقط من رجوعي للشمال استنتجت أن المنطقة غير صالحة للعيش نهائياً".

بسرعة اتخذ صابر قرار النزوح العكسي من شمال القطاع نحو الجنوب، يضيف "قررت العودة لمنطقة المواصي، هناك سأستأنف حياتي في الخيمة نفسها التي عشت فيها فترة الحرب، السبب واضح في شمال غزة لا وجود لمقومات الحياة، كل شيء هنا خراب".

أزمة المياه والركام

توفيق وصابر ليسا وحدهما من قرر العودة العكسية، بل هذه نماذج من آلاف النازحين الذين لم يستطيعوا العيش في شمال القطاع، وقرروا النزوح عكسياً نحو جنوبه، بعدما وجدوا مناطقهم مدمرة بالكامل، ولم يعثروا على أي مقومات للحياة في شمال القطاع.

يعاني غالب النازحين الذين قرروا العودة العكسية انعدام المياه في مناطق شمال القطاع، وعدم وجود مساحات نظيفة من الركام ليقيموا عليها خيامهم، وهذا ما دفعهم إلى العودة لجنوب القطاع لمواصلة حياتهم بمقومات قليلة.

في بيت حانون أقصى شمال القطاع، عادت أنعام لمنطقتها، وفور وصولها وجدت نفسه أمام مشهد مخيف، إذ تحولت المنطقة كلها إلى جبال من الركام، ولم تستطع تمييز موقع بيتها، وعلى رغم ذلك حاولت التأقلم مع الوضع الجديد ونصبت خيمة أمام تلال الأنقاض.

اضطرت أنعام إلى السير مسافة ثلاثة كيلومترات للوصول إلى أقرب نقطة تعبئة مياه للاستخدام الأدمي واضطرت إلى تعبئة غالون بسعة 18 ليتراً بسعر سبعة دولارات، وفضلاً عن ذلك حملته على يديها، هو ما جعلها تقرر العودة لمنطقة نزوحها في دير البلح جنوب غزة.

تقول "لم أجد أية جهة تقدم لي خيمة ولا مياهاً مياه صالحة للشرب، ولا حتى مساعدات إغاثية عاجلة، وهو ما دفعني إلى العودة لخيمتي في دير البلح، حيث الظروف لا تقل سوءاً، لكنها في الأقل أكثر استقراراً".

الوعود الدولية لم تنفذ

يحب عصام أشجار التفاح التي زرعها في بيت لاهيا شمالاً ولأجلها قرر العودة نحو شمال القطاع، وعند عودته، لم يجد منزله، ولا حتى شجرة واحدة من حديقته التي اعتنى بها لسنوات، إذ جرفت آلة الحرب الإسرائيلية كل شيء.

ساعات قليلة فقط أمضاها عصام في بيت لاهيا وبعد ذلك قرر العودة عكسياً لخيمته في منطقة المواصي، ويتساءل عن الوعود الدولية بالإغاثة العاجلة، التي كان من المفترض أن تكون في انتظاره عند عودته، لكنه لم يجد أجوبة، ولم يحصل على خيمة، أو مياه للشرب، وأيقن أن الحياة في شمال غزة مستحيلة.

ليس عصام وحده من يثير هذه التساؤلات، آلاف العائدين لشمال القطاع يكررونها، بعدما وجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة واقع مأسوي، بلا مأوى ولا ماء ولا غذاء ولا خدمات إنسانية أساسية.

جمع أحمد أدوات حفر يدوية وبدائية وقرر تنظيف مكان منزله، لكن جهوده اصطدمت بأعمدة حديدية وعجز عن توفير مكان يعيش فيه شمال غزة، يقول "حسمت أمري وقررت الرجوع إلى خيمة في جنوب القطاع".

ويضيف "في شمال غزة الدمار كبير ولا يوجد متر واحد يمكن العيش فيه، المنطقة بلا أي معالم للحياة. بالتالي من الصعب العيش هكذا، حتى لو كنا نحب بيوتنا، ما لم يشجعنا أيضاً غياب المياه، فمن دونها تصير الحياة مستحيلة".

في جنوب غزة مقومات أفضل بقليل

تقول الباحثة الاجتماعية سامية الحرازين "يفضل آلاف الأهالي خصوصاً الذين يعيشون في خيام جنوب القطاع، العودة للجنوب بصورة موقتة نتيجة توفر المياه ونقاط شحن البطاريات والهواتف وانتشار مدارس تعليمية رسمية وتوفر الإنترنت بجودة أعلى، على العكس من الحياة الحالية في شمال القطاع التي تغرق في ظلام دامس ولا تتوفر فيها تلك المقومات".

وتضيف "يجد النازحون عكسياً في جنوب غزة مخابز وحياة وأسواقاً وتعليماً وإنترنت وصيانة للشوارع، أي أنها قطعت شوطاً في محاولة النهوض بعد الحرب، وعندما عادوا للشمال كان الواقع صادماً وفاق قدرتهم على الصمود أو تحمل الحياة في بيئة مدمرة بالكامل، إذ تحتاج إلى معدات ثقيلة لتهيئة المكان".

وتوضح الحرازين أن كل هذه العوامل جعلت الحياة في شمال غزة شبه مستحيلة بالنسبة إلى كثيرين، يضاف إليها انعدام القدرة المادية على إنشاء خيام أو إصلاح أجزاء من بيوتهم المدمرة، ولذلك نرى أن هناك فئة قررت النزوح عكسياً والعودة لجنوب غزة حيث المنطقة الإنسانية.