Image

لقاء الشعر والخلود .. أدونيس يحيي ذكرى بدر شاكر السياب

في أمسية استثنائية احتضنتها العاصمة البريطانية لندن، اجتمع عشاق الشعر العربي لإحياء ذكرى أحد أبرز رواده، بدر شاكر السياب. 
وكأن الزمن عاد إلى الوراء، ليُعيد صدى الكلمات التي غيّرت مسار الشعر العربي الحديث، لكن هذه المرة، كان الصوت الذي يستحضر السياب هو الشاعر العربي الكبير أدونيس، في لقاء جمع بين مدرستين شعريتين، تفصل بينهما الأجيال، لكن توحدهما الثورة على التقليد والبحث عن آفاق جديدة للشعر العربي.

السياب: 
رائد الحداثة وبكاء المنافي

وُلد بدر شاكر السياب عام 1926 في قرية جيكور العراقية، حيث تشكلت ملامح شاعريته الأولى بين الحقول والأنهار، لكنه لم يلبث أن غادر طفولة الريف إلى عالم الأدب والسياسة، متأثراً بالأحداث العاصفة التي شهدتها المنطقة.

كان السياب من أوائل من كسروا بنية القصيدة العربية التقليدية، ليصبح ديوانه “أزهار ذابلة” (1947) نقطة تحول في تاريخ الشعر العربي، لكنه لم يكن مجرد متمرد على الشكل، بل كانت تجربته الشعرية صرخة إنسانية في وجه الألم والغربة.

حين قرأ أدونيس في الأمسية “أنشودة المطر”، كان الجمهور يستمع إلى واحدة من أكثر القصائد تعبيراً عن روح السياب:

“عيناك غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهر”

في هذه الأبيات، يتجلى عالم السياب الحزين، حيث الطبيعة تتحول إلى مرآة للألم الداخلي، والمطر يصبح رمزاً للحياة والموت في آنٍ واحد.

ولكن السياب لم يكن شاعر الحب فقط، بل شاعر المنافي، والغربة، والخذلان، في أيامه الأخيرة، كتب وهو على فراش المرض:

“لكَ الحمدُ مهما استطالَ البلاءُ
ومهما استبدّ الألمْ
لكَ الحمدُ إن الرزايا عطاءٌ
وإن المصيباتِ بعضُ الكَرَمْ”

وهكذا ظل السياب يكتب حتى الرمق الأخير، شاعراً يحمل جراحه على هيئة قصائد لا تموت.

أدونيس: 
ثورة الحداثة وسؤال الوجود

على الضفة الأخرى، يقف أدونيس، الاسم الذي لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن الشعر العربي الحديث، منذ ديوانه الأول “قصائد أولى” (1957)، بدأ أدونيس رحلة البحث عن أفق جديد للشعر، بعيداً عن النمط التقليدي، ليؤسس لمنهج شعري يتداخل فيه الفلسفي بالأسطوري، والذاتي بالكلي.

كان أدونيس شاعر الأسئلة الكبرى، الذي يقلب التاريخ والتراث بحثاً عن المعنى، كما في قصيدته الشهيرة “هذا هو إسمي” :

“مُنذُ سُلالات الطّينِ الأولى
والأرضُ تحوِمُ حَولي
كالأمِّ
كَما العُشّ
وَتَنسى أنَّ اسميَ
نارٌ
وأنّيَ يومَ وُلِدتُ
وُلِدتُ بلا جَلدٍ
كالقَمحِ
وبلا شَجرٍ كالأمواجِ
وبلا زَمنٍ كالنَّهَرِ الجاري”

لقد جعل أدونيس من اللغة بيتاً آخر للوجود، حيث الكلمات ليست مجرد وسيلة، بل عالم متكامل يعيد تشكيل الواقع.

عندما يلتقي السياب وأدونيس: 
حوار الأزمنة والقصيدة

في هذه الأمسية، لم يكن أدونيس مجرد شاعراً يقرأ نصوصه، بل كان شاهداً على رحلة الحداثة التي بدأها السياب وأكملها هو ومن جاء بعده، تحدث عن السياب بوصفه صوتاً سابقاً لعصره، شاعراً حمل معاناته الشخصية إلى مستوى أسطوري، حيث صارت قصائده جزءاً من وجدان العرب.

وحين ألقى أدونيس مقاطع من شعره الخاص، كان الحاضرون يشعرون بأنهما – السياب وأدونيس – يلتقيان في نقطة واحدة رغم إختلاف أساليبهما:

نقطة كسر الحدود، وتوسيع أفق الشعر العربي، وجعله لغة للحياة بأسرها.

لندن تضيء بأصوات الشعراء

خرج الحاضرون من الأمسية محملين بصدى القصائد، وكأن السياب بعذابه، وأدونيس بفلسفته، التقيا على أرض لندن ليعيدَا تعريف الشعر مرة أخرى.

إنها لحظة تذكرنا بأن الشعر، رغم الزمن والمنافي، يبقى صوتاً خالداً، يعبر الأجيال، ويعيد تشكيل العالم بالكلمات.