ترمب يلمح لفصل جديد في العلاقات مع روسيا والصين
بدا الرئيس الأميركي دونالد ترمب أكثر تعقلاً في خطابه تجاه الصين خلال المنتدى الاقتصادي العالمي عما كان خلال ولايته الأولى، وأظهر رغبة في التفاهم والحوار مع كل من موسكو وبكين. وفي حين تحدث بصورة واضحة عن التعريفات الجمركية والتعقيدات البيروقراطية التي يفرضها حلفاء الولايات المتحدة عبر الأطلسي على المنتجات والاستثمارات الأميركية، فإنه تجنب الإشارة إلى بكين في هذا الجانب على رغم الحرب الشعواء التي شنها في الماضي حيال الصادرات الصينية للولايات المتحدة.
وفي الوقت نفسه، أبدى الساكن القديم العائد للبيت الأبيض رغبة في التنسيق مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين لكبح جماح الطموحات النووية للصين، إضافة إلى التفاهم لوقف حرب أوكرانيا.
وبوضوح لا لبس فيه، دعا ترمب نظيره الصيني شي جينبينغ إلى مساعدته في إنهاء حرب أوكرانيا. وقال خلال ظهوره عبر الفيديو في المنتدي الذي انعقد بمدينة دافوس في سويسرا الأسبوع الماضي، إنه طلب المساعدة من شي خلال مكالمة هاتفية تلقاها من نظيره الصيني أخيراً، ووصف الصين بأنها "تتمتع بقدر كبير من القوة في هذا الأمر".
وتجنب ترمب اللغة الصدامية في حديثه إلى كل من الصين وروسيا. فعلى عكس الاتهامات الغربية لبكين بدعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من خلال شراء النفط الروسي وتوريد المكونات المستخدمة في بناء الصواريخ، أعرب ترمب عن آماله أن "تتمكن الصين من المساعدة في وقف الحرب"، قائلاً إن الصينيين "لديهم قدر كبير من القوة على هذا الوضع، وسنعمل معهم".
ترمب على استعداد لإبرام الصفقات
حتى الآن، امتنع ترمب عن تنفيذ تهديده بفرض رسوم جمركية باهظة على الصين، وأخبر قادة الأعمال والسياسة في منتدى دافوس أن البلدين يمكن أن يكون لهما "علاقة جيدة للغاية"، معرباً عن اهتمامه بزيارة العاصمة الصينية خلال الأشهر المقبلة. ومنح مهلة 75 يوماً لتطبيق "تيك توك" TikTok المملوك للصين لإيجاد شريك أميركي عندما حُظر التطبيق داخل الولايات المتحدة، وأشار إلى أنه سينظر في تخفيف قانون يتطلب من الشركة التخلي عن أعمالها الأميركية أو حظرها.
ويعتقد المراقبون أن ما صدر عن ترمب حتى الآن هو إشارة قوية إلى أن الرئيس العائد إلى البيت الأبيض على استعداد للتحدث وإبرام الصفقات مع الصين، في الأقل خلال الوقت الحالي. وهي أخبار سارة لبكين، التي كانت تستعد لفترة مضطربة في العلاقات مع الولايات المتحدة، إذ عبَّأ ترمب حكومته بصقور الصين وأكد فرض رسوم جمركية عالية على جميع الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة.
وقال الباحث السياسي ليو دونجشو من جامعة مدينة هونغ كونغ لشبكة "سي أن أن"، "تدرك بكين أن هناك فرصة للتفاوض مع ترمب". و"إن العلاقات الأفضل بين الولايات المتحدة والصين أكثر أهمية بالنسبة إلى الصين من الولايات المتحدة... لذا، فإن بكين حريصة على المشاركة".
تفاهم روسي - أميركي في شأن النووي الصيني
ومن جانب آخر، يثير برنامج الأسلحة النووية الصيني قلق واشنطن. وسابقاً، فشل ترمب خلال فترة ولايته الأولى في إشراك الصين بالمفاوضات لتمديد معاهدة الأسلحة النووية مع روسيا "ستارت الجديدة"، والتي تفرض قيوداً رئيسة على الأسلحة النووية المنشورة وتنتهي خلال فبراير (شباط) 2026. وبالفعل، تجمدت مشاركة الولايات المتحدة وروسيا في المعاهدة أثناء إدارة بايدن، إذ سعى الرئيس الروسي للرد على دعم واشنطن لأوكرانيا عسكرياً. وهدد بوتين باستخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا لمحاولة ردع الدعم العسكري الأميركي والأوروبي لكييف.
وفي كلمته أمام المنتدى العالمي، أشار ترمب إلى المحادثات مع بوتين قبل الانتخابات الأميركية 2020 حول محادثات نزع السلاح النووي، وكيف "كانت الصين ستشارك"، قائلاً "نريد أن نرى ما إذا كان بإمكاننا نزع السلاح النووي، وأعتقد أن هذا ممكن جداً... أستطيع إخباركم أن الرئيس بوتين أراد القيام بذلك، هو وأنا أردنا القيام بذلك. لقد أجرينا محادثة جيدة مع الصين، وكانوا ليشاركوا، وكان ذلك ليكون شيئاً لا يصدق بالنسبة إلى الكوكب".
وتُقدر الأسلحة النووية لدى الصين بنحو 500 رأس نووي وفقاً لتحليل نشره العلماء الذريون واتحاد العلماء الأميركيين، لكن البنتاغون يُقدر أن الصين تعمل على توسيع ترسانتها إلى 1000 رأس نووي بحلول عام 2030. ويبلغ مخزون الولايات المتحدة من الرؤوس النووية 1770 رأساً نووياً منتشرةً مقارنة بـ1710 لدى موسكو.
دق إسفين أو مزيد من الدبلوماسية
لم تعزز الصين وروسيا علاقاتهما إلا منذ شن بوتين حربه على أوكرانيا قبل ثلاثة أعوام، إذ تعد بكين داعماً مالياً رئيساً لروسيا في الحرب القائمة. والتقى زعيما البلدان في مناسبات مختلفة واعدين بـ"عصر جديد" من العلاقات. والثلاثاء الماضي، أجرى شي وبوتين مكالمة بالفيديو ناقشا خلالها سبل "تعميق التنسيق الاستراتيجي، ودعم بعضهما بعضاً بقوة، والدفاع عن مصالحهما المشروعة".
ربما ذلك التعاون هو ما لا يتمناه ترمب الذي قال في مقابلة مع المعلق السياسي تاكر كارلسون خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إن "أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن تتحد روسيا والصين"، مضيفاً "سأضطر إلى التفريق بينهما، وأعتقد أنني أستطيع فعل ذلك". ويرى مراقبون أن المؤشرات الأولية توحي بأن إدارة ترمب ربما تسعى إلى إلحاق الضرر بالشراكة الصينية – الروسية، من خلال تخفيف التوترات مع موسكو (وربما تحسين العلاقات معها) بهدف الضغط على بكين، وهي خطوة تتناقض مع ما خطط له وزير الخارجية هنري كيسنجر قبل أكثر من 50 عاماً، عندما سعت الولايات المتحدة إلى تحقيق انفراج مع الصين لاستغلال الانقسام السوفياتي - الصيني.
وكثيراً ما تفاخر ترمب ببراعته في صنع الصفقات. وخلال فترة ولايته الأولى زعم أنه أقام علاقة صداقة مع بوتين وشي، وهو ما أشار إليه في خطابه بدافوس أول من أمس الخميس. لكن المراقبين يقولون إن تقدير الصداقة بين روسيا والصين قد يكون تحدياً لا يمكن التغلب عليه، في حين يرى آخرون أن التحالف الذي تشكل بين القوتين لتحدي القوة الأميركية منذ حرب أوكرانيا موجود ليبقى.
وتثير تلك العلاقة بين موسكو وبكين قلقاً متزايداً لدى القادة في البنتاغون، إذ تمتلك كلتا الدولتين ترسانات نووية هائلة وتكنولوجيا عسكرية متطورة. وارتفعت التجارة بين البلدين إلى مستوى قياسي بلغ 240 مليار دولار عام 2023. وفي الوقت نفسه، شاركت جيوش روسيا والصين في تدريبات عسكرية مشتركة، وتهدد الصين بغزو تايوان.
توترات يمكن استغلالها
ومع ذلك، يشير مراقبون إلى توترات أساس خطرة في التحالف بين البلدين قد يسعى ترمب إلى استغلالها. وأشار الرئيس الأميركي إلى هذه التوترات في تصريحاته لكارلسون، مدعياً أن روسيا والصين "عدوان طبيعيان" لأن الصين تطمع في الأراضي الروسية داخل الشرق الأقصى، كما أن المصالح الصينية والروسية ليست متوافقة بصورة كاملة، ففي حين تتقاسم بكين وموسكو هدف تآكل نفوذ واشنطن العالمي وشبكات تحالفاتها، فإن الدولتين لديهما وجهات نظر استراتيجية مختلفة جوهرياً.
وقال أستاذ الأمن الدولي بجامعة برمنجهام في المملكة المتحدة ستيفان وولف إن "هناك استياءً واسعاً تجاه الصين في روسيا، سواء في الدوائر العامة أو السياسية".
وحققت الصين تقدماً جريئاً في جمهوريات آسيا الوسطى التي طالما كانت تُرى كجزء من مجال نفوذ موسكو. ويشير وولف إلى أن روسيا حذرة من أن تسعى الصين إلى إحياء النزاعات الحدودية القديمة لتوسيع أراضيها، فروسيا "في نهاية المطاف تشعر بالاستياء من حقيقة أن موسكو أصبحت الآن شريكاً صغيراً لبكين. وهذه كلها أمور يمكن أن يستخدمها ترمب لدق إسفين بين روسيا والصين".
ومع ذلك، يعتقد مراقبون أن تحقيق الهدف سيكون صعباً للغاية. فلإغراء بوتين بالابتعاد من تحالفه مع شي من المرجح أن يقدم له ترمب اتفاق سلام بوساطة أميركية في شأن أوكرانيا، يلبي معظم المطالب التي حددها الرئيس الروسي. وتشمل هذه المطالب ضم مساحات شاسعة من الأراضي الأوكرانية وضمانات برفع العقوبات، وهي الشروط التي رفضتها أوكرانيا بصورة قاطعة، وهذا من شأنه أن يثير غضب حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين.
ويقول مدير مركز "كارنيغي روسيا أوراسيا" في برلين أكسندر غابويف إن روسيا أصبحت تعتمد بصورة كبيرة على الصين اقتصادياً، فخلال العامين الماضيين كانت نسبة 40 في المئة من الواردات الروسية تأتي من الصين، و30 في المئة من الصادرات الروسية تذهب إلى هناك. وهذا الاعتماد على بكين يزداد عمقاً ولا يمكن تغييره بين عشية وضحاها، فإلغاؤه يتطلب أيضاً جهوداً منسقة بين الأميركيين والأوروبيين من أجل زيادة التجارة الثنائية مع روسيا، وهو أمر يصعب تصوره في ظل إدارة ترمب.
ويضيف غابويف أن بوتين وشي يدركان أن هذه ستكون ولاية ترمب الأخيرة، وأنه من السهل أن يتبعه رئيس قد يلغي أي اتفاق تُوصل إليه تحت إدارة الرئيس الجمهوري. وعلى النقيض من ذلك، يخطط كل من شي وبوتين للبقاء في السلطة إلى ما بعد عام 2029، أي بعد أن تنتهي فترة ولاية ترمب. وبعيداً من العلاقة الشخصية بين الزعيمين المستبدين فإن شعور انعدام الثقة الذي يتشاركانه تجاه واشنطن، وآمالهما في أن يصبحا أكثر قوة في نظام عالمي متعدد الأقطاب ينشأ على حساب الولايات المتحدة، من المحتمل أن يوفر أساساً قوياً بما يكفي للحفاظ على الشراكة الصينية - الروسية مستقرةً ومتناميةً.
الدبلوماسية
ويوصي مركز بروكينغز في واشنطن بأنه ينبغي أن تتمثل الأهداف الرئيسة للولايات المتحدة في ما يتصل بالشراكة بين الصين وروسيا، في منع مزيد من تعميق هذه العلاقة ومواجهة جهود بكين وموسكو الرامية إلى تقويض الزعامة العالمية للولايات المتحدة، ودعمها للنظام الدولي القائم على القواعد. ولتحقيق هذه الأهداف ينبغي لإدارة ترمب أن تُبقي قنوات الاتصال مفتوحة، في حين قد لا تكون الولايات المتحدة قادرة على هندسة الانقسام الصيني - الروسي، إلا أنها يجب أن تُبقي الباب الدبلوماسي مفتوحاً حتى إذا نشأت توترات في العلاقة بين الطرفين، فإن أحد الطرفين أو كليهما يرى في واشنطن خياراً قابلاً للتطبيق للتحوط ضد الطرف الآخر.
وفي الوقت نفسه، يعتقد المراقبون في "بروكينغز" أنه ينبغي إرسال إشارة إلى بكين بأن مصالحها تخدم بصورة أفضل من خلال الحد بصورة كبيرة من دعمها لروسيا، إذ تشترك الصين على نطاق واسع في مصلحة الاستقرار الإقليمي والعالمي، وتطمح لأن تكون زعيمة تحظى بالاحترام في النظام الدولي، لذا يجب استخدام مزيج من الكلف الاستراتيجية والسمعة مثل التهديد بفرض عقوبات ثانوية، فضلاً عن الحوافز الدبلوماسية لدفع بكين إلى الحد من علاقاتها مع روسيا والاستفادة منها بصورة بناءة.
من جانب آخر، يرى المحلل السياسي لدى مؤسسة راند للأبحاث في واشنطن بول كورماري أنه ما لم تحل الولايات المتحدة محل الصين كشريك رئيس لروسيا، وهو أمر يصفه بالسخيف، فلا يوجد شيء كبير يمكن أن يفصل بين البلدين بصورة واقعية خلال الوقت الحالي".