جثث متحللة تحت الأنقاض تنكأ جراح أهالي مفقودي غزة
في محافظة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، وقف فراس العصار أمام ركام منزله للبحث عن ابنه المفقود الذي لا يعرف عنه أي شيء منذ نزوحه إلى المنطقة الإنسانية، وبدأ ينبش في بقايا بيته المدمر بحثاً عن جثة أو أي دليل يقوده إليه.
أثناء نزوح فراس من محافظة رفح، طلب من جميع أولاده مغادرة المنزل، وأمسك هو بيد ابنه حمدان المفقود، وقبل أن يغادر البيت تعرض المبنى لقصف إسرائيلي، وبسبب الفوضى والخوف، ترك الأب يد صغيره وهرب بسرعة.
حضن الجثة ودعاها للعودة للحياة
حاول فراس البحث عن ابنه حمدان كثيراً قبل نزوحه، لكن لم يعثر عليه، وتحت وطأة القصف اضطر إلى المغادرة، عندما تدارك الأب الموقف تألم كثيراً وعاش اضطراب ما بعد الصدمة، وظل ينتظر بفارغ الصبر اتفاق وقف إطلاق النار ليبحث عن صغيره.
يقول فراس، "منذ وقوع الحادثة لم أر النوم، كنت أتخيل وجه ابني وأسمعه يناديني ويطلب مني إنقاذه، لم أكن أعلم إذا كان على قيد الحياة أو مات، لذلك بلغت السلطات المحلية عن فقدان ابني، وتم رصد بياناته ضمن تعداد المفقودين".
استغل الأب فراس دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وبدأ يبحث عن ابنه بواسطة أدوات بسيطة كالمجارف، ويساعده في هذه المهمة الجيران والمتطوعون، وبعد ساعات طويلة وشاقة عثر على جثمانه.
يضيف الأب فراس، "عندما وجدنا جثة حمدان، شعرت بأنني فقدت روحي، كان جسده متجمداً تحت الركام، لكنني شعرت بأنه أخيراً عاد، احتضنته وكأنني أحاول أن أرجعه للحياة لكنه كان ميتاً، حملته بين ذراعي ودفنته وتمسكت بالصبر والدعاء".
تضارب في شأن أعداد المفقودين
في غزة، استغلت آلاف العائلات دخول اتفاق وقف الحرب حيز التنفيذ، وبدأت تبحث عن أبنائها المفقودين، وكذلك شرع جهاز الدفاع المدني في التنقيب بين الركام والدمار لإجلاء المختفين ومعرفة مصيرهم.
نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية العنيفة وتوغل الجيش في معظم أنحاء القطاع، برزت ظاهرة المفقودين، وتضاربت المعلومات في شأن هذه الفئة إذا كانوا ضحايا أموات وجثثهم تحت الأنقاض أو تبخرت أجسادهم أو اعتقلهم الجيش أو تائهين في غزة ويصعب عليهم التواصل مع عائلاتهم.
تسلمت الجهات الحكومية في غزة 11,200 بلاغ عن مفقودين، ولكن هذا ليس العدد الإجمالي لهؤلاء، إذ تقدر الأمم المتحدة أن عدد المختفين في القطاع وصل إلى 21 ألفاً، وأن هذه مأساة بدأت تتكشف مع بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار.
وبحسب منظمة "أنقذوا الأطفال" يشكل الصغار أكثر من نصف تعداد المفقودين، إذ وثقت الفرق الميدانية للمؤسسة 21 ألف حالة لأطفال مختفين، ويشمل هذا الرقم القاصرين الذين وصلوا إلى المستشفيات ولم تستطع الطواقم التعرف عليهم ويصنفون في خانة "طفل جريح بلا عائلة على قيد الحياة".
لا أثر
وفي حال أخرى، انتهى سليم من البحث بين أنقاض منزله المدمر وفي جميع أرجاء الحي الذي يسكنه عن شقيقه ولم يجد له أي أثر، يجلس أمام خيمته ويحاول إقناع نفسه أن أخاه فارق الحياة، وربما تبخرت جثته، لكنه يرفض تصديق هذه الرواية.
يقفز من مكانه ويركض نحو الأنقاض بحثاً عن أي أثر لشقيقه ثم يعود، ويفكر إذا ما كان الجيش الإسرائيلي قد اعتقله، أو لربما في المستشفيات مصاب ومسجل أنه "جريح من دون عائلة"، يهم للبحث عنه بسرعة ويقول "أهالي المفقودين يعيشون الويلات مع توقف الحرب وينتظرون معرفة مصير ذويهم".
بدأت فرق الحماية والإسعاف والدفاع المدني البحث عن المفقودين منذ سريان الهدنة، ويدرك العاملون والمتطوعون أن مصاعب كثيرة تواجههم وأنهم قد لا يجدون المختفين. ويقول المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل، "نبحث عن أكثر من 11 ألف مفقود، والعثور عليهم وسط هذا الركام أمر مرهق وصعب، هناك ضحايا تبخرت أجسادهم في الحرب ولم نجد لهم أثراً، بلغ عددهم 3 آلاف حالة".
هيكل عظمي وجماجم
بعدما انتشلت فرق الدفاع المدني هيكلاً عظمياً لأحد الضحايا، هرع جمال إلى مكان البحث حيث وجد بقايا ملابس ابنه، حينها شهق صارخاً "لم أتعرف على عظام طفلي، لكن ثيابه كانت هي الدليل".
لم يصدق جمال عينيه عندما رأى ابنه مجرد هيكل عظمي وجسده قد تحلل، انهار مكانه، ثم احتضن العظام وكأنه يدعوها إلى العودة للحياة، يضيف الأب الموجوع "خيم على تفكير عائلتي حال من الترقب والقلق، فنحن لا نعرف عن مفقودي أسرتي أي شيء، مما جعلنا ننتظر بصيص أمل أن تعود لنا بسمة اختفت منذ عام".
واصل فريق الحماية والدفاع المدني البحث عن المفقودين من تحت ركام منزل جمال، وبعد عناء انتشلوا جثامين 203 ضحايا من أسفل المبنى المنهار، وكانت الطواقم تعمل بواسطة أدوات بسيطة وجرافات قليلة من دون معدات ثقيلة.
يضيف بصل، "عثرنا على بعض الجثامين وقد تحولت إلى رفات وعظام وجماجم هياكل عظمية بسبب طول مدة بقائها تحت الأنقاض، بالتعاون مع الأدلة الجنائية في الشرطة وثقنا الدلائل والرموز التي تساعد في كشف هوية الضحايا".
أدوات بسيطة
تعمل فرق الدفاع المدني بواسطة أدوات بسيطة وبدائية، يواصل بصل حديثه "العمل بهذه الآلية البدائية سيستغرق البحث عن المفقودين نحو ثلاثة أعوام، نحن في حاجة إلى معدات ثقيلة ومتخصصة لانتشال الجثامين من تحت الأنقاض، لكن إذا توفرت المعدات اللازمة ننجز المهمة خلال 100 يوم".
خسر الدفاع المدني جزءاً كبيراً من أدواته، إذ دمرت إسرائيل 17 مركزاً، وجرى تدمير جميع مركبات الإطفاء والإنقاذ وعربات التدخل السريع وسيارات الإسعاف، ولم يتبق سوى 10 جرافات.
غزة في حاجة إلى خبراء في الطب الشرعي
ويقول المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، "قضية المفقودين تمثل مأساة أخرى، نهاية الحرب لا تعني نهاية البكاء والألم، نحن أمام مشاهد مروعة تتكرر يومياً، مما يعكس عمق المأساة الإنسانية".
ويضيف، "يجب أن تسمح إسرائيل بدخول فرق فنية وخبراء في الطب الشرعي والفحص الجنائي، إضافة إلى المعدات اللازمة إلى قطاع غزة، للمساهمة في انتشال جثامين الضحايا من تحت الأنقاض".
ويوضح الثوابتة أن غزة في حاجة إلى فرق من خبراء الطب الشرعي والفحص الجنائي للتعرف على هويات الضحايا، خصوصاً أن الدفاع المدني وجد جثامين متحللة يصعب التعرف عليها إذ لم يتبق منها سوى الجماجم وبعض العظام".