Image

صاحب "السمفونية الخيالية" يسير على خطى أصحاب المدن الفاضلة

كان ذلك قبل ما يصل إلى قرنين من الزمن، وتحديداً في عام 1831 حين انصرف الموسيقي الفرنسي هيكتور بيرليوز إلى إنجاز ذلك العمل الإبداعي الذي كان بعيداً من مؤلفاته الموسيقية العملية التي كان، وهو في نحو الـ 20 من عمره يكثر من تأليفها متوخياً منها أن تصنع له مكانة يرى أنه يستحقها في عالم الألحان. بيد أن ذاك الذي سيعرف لاحقاً بواحدة من أروع سمفونيات الزمن الرومنطيقي في الإبداع الفرنسي، "السمفونية الخيالية" وبخاصة بكونه واحداً من أعظم مؤلفي القداسات الدينية في تاريخ هذا الفن في بلده فرنسا على الأقل، كان من الطموح واتساع الخيال إلى درجة أنه لم يكتفِ بأن يكون موسيقياً، بل شاء أن يقدم نفسه إلى العالم بوصفه كاتباً أيضاً. وهو بالتالي، إذ خلّف عند رحيله آلاف الصفحات بين مذكرات شخصية وتعليقات فنية وفكرية وأدبية، أمعن طوال حياته في استخدام القلم للكتابة بقدر ما أمعن في التدوين الموسيقي. ومع ذلك لا بدّ من القول إن جزءاً كبيراً مما كتبه، إنما يدور من حول الموسيقى مفصلاً فيه خلفيات أدبية وحياتية لأعماله الكبرى في هذا المضمار.

 

في عوالم سان سيمون

إذاً في مستهل العقد الثالث من عمره وضمن إطار تعليقات من كتاباته شاءها موسيقية في أغلب الاحيان، ولسوف تنشر لاحقاً تحت عنوان إجمالي هو "ليالي الأوركسترا"، نرى بيرليوز يكتب تحت عنوان "السهرة الـ 25"، واحداً من أجمل نصوصه، وربما أغربها، مع عنوان ثانوي تفسيري هو "إيفونيا أو المدينة الموسيقية، خبر من المستقبل". ولعلّ أول ما يمكن ملاحظته هنا هو أن النص الذي لم يكن مسهباً على أية حال، يبدو من الواضح أنه ينتمي فكرياً إلى المفكر الذي كان وأفكاره "على الموضة" في ذلك الحين، سان سيمون الذي، حتى بعد موته، واصل مريدوه وتلامذته العمل ضمن إطار "مدينته الفاضلة" التي كان من بين مستتبعاتها نزوح المريدين إلى مصر بين مناطق أخرى من العالم حيث انطلقوا، هناك مع واحد منهم هو المهندس المصري محمد مظهر، يشتغلون على مشروع أولي لشقّ قناة السويس. المهم أن نص بيرليوز يشي بسان سيمونية خلّاقة ويدور من حول مدينة فاضلة تسير على خطى أفلاطون من طريق سان سيمون وسابقيه مثل مؤلفي "يوتوبيا"، ومدينة الشمس"، و"الأطلانطيد الجديدة" وغيرها. لكن مدينة بيرليوز تلك كانت أولاً وأخيراً مدينة موسيقية لا تربطها بالسياسة والأفكار الاشتراكية الاجتماعية التي هي القاسم المشترك بين المدن الفاضلة روابط كثيرة تتعدى الرغبة في إيصال الإنسان إلى السعادة ولكن، عن طريق الفنّ الموسيقي هذه المرة. وهو أمر لا بدّ لنا من رصده قبل أن ندخل في عوالم هذا النص الذي من المؤكد أن بيرليوز لم يتخلّ عن الإيمان به والسعي إلى تطبيقه طوال العقود التالية من حياته، ودائماً من منطلق رومنطيقي هيمن دائماً على إبداعاته الموسيقية وعلى مبررات وجوده على أية حال. والحقيقة أن رصدنا لما يتضمنه النص يضعنا أمام فكر إصلاحي واجتماعي مدهش يمكّننا، بشكل أفضل، من فهم موسيقى ذلك المؤلف الفرنسي الكبير، الذي بقدر ما كانت ألحانه منتشرة في فرنسا وأوروبا منذ العقود المتوسطة من القرن الـ 19، كانت كتاباته معروفة أيضاً منذ نشرت مذكراته في عام 1870، عام الكومونة الباريسية التي قام جزء منها انطلاقاً من أفكار تتوخى السعي لتحقيق المدن الفاضلة وصولاً إلى مدينة سان سيمون نفسه.

أفلاطون في خلفية الصورة

في النص الذي يشكّل خلفية اهتمامنا هنا ببرليوز، يخبرنا هذا الأخير منذ البداية بأن الشغل الشاغل للإيفونيين، أي سكان مدينته الفاضلة إيفونيا، إنما هو الغناء والعزف على الآلات الموسيقية، وكل ما ينتمي مباشرة أو بصورة غير مباشرة إلى فنون الموسيقى، علماً أن معظم هؤلاء السكان مغنون وعازفون في الوقت نفسه، من دون أن يعني ذلك أن ليس ثمة في الوقت نفسه من لا يهتمون إلا بصنع الآلات وتصليحها كما بطباعة نصوص النوتات الموسيقية. وهناك طبعاً آخرون يكرّسون وقتهم للبحوث المتعلقة بالمسائل الصوتية التقنية والقضايا الفيزيائية المتعلقة بعلم الأصوات. وعلى الطريقة التي لا شكّ أنها مستعارة مباشرة من سان سيمون كما من أفلاطون إن نحن أردنا التوغل أبعد من ذلك، يخبرنا بيرليوز أن كل فئة مهنية يتعلق عملها بالغناء والعزف والتلحين وما إلى ذلك، تتوزع بالنسبة إلى إقامتها في أحياء خصص كل واحد منها لفئة معينة، فيحمل الحي بالتالي إشارة إلى المهنة اسماً له، ومن هنا ثمة أحياء لمغني السوبرانو، وأخرى لأصحاب الأصوات الخفيضة، وثالثة لعازفي البيانو أو الكمان... وغيرها لعازفي النايات وهكذا... وهنا قد لا يكون من الضروري القول مع بيرليوز إن إيفونيا تحكم حكماً عسكرياً وتخضع في حكمها هذا لنظام تسيير "ما يخلق الانتظام المتكامل والمنهج الذي يهيمن وبخاصة في المدارس، ويؤدي إلى نتائج إبداعية لا مثيل لها في التاريخ!".

المكان للموهوبين وحدهم

والحال أن هذا كله يجعل من إيفونيا مكاناً لتربية وعيش الموهوبين في المجال الموسيقي وحدهم. وهو أمر يتقرر باكراً في حياة المرشحين ليكونوا من سكان هذه "المدينة الفاضلة ذات الخصوصية المطلقة"، أما الذين يبدو عليهم منذ الصغر افتقار للمواهب الموسيقية أو حتى عدم الرغبة في اكتساب تلك المواهب وتنميتها، فما عليهم إلا أن يتوجهوا إلى المدن العادية حتى ولو كانت في منأى عن إيفونيا أو لا تقيم معها أية علاقات. ولن يشعر أحد بالغبن غزاء ذلك طالما أن العالم الواسع يتسع للجميع على عكس تلك المدينة الشديدة التخصص. وبالنظر إلى أن إيفونيا، وبصورة ضمنية، مشروع مؤهل للنجاح، من الواضح أن ثمة في البلد الواسع مشاريع تشبهها وربما تستظل بنجاحها، غير أن بيرليوز لا يعتبر نفسه بهذا الأمر. فهو موسيقي وما يهمه إنما هو حياة الموسيقى وممارسيها من دون أن يسهى عن باله أن نجاح هؤلاء في ما هم متوجهون إليه سينعكس على الباقين الذين لا شك يشكلون جمهورهم. ففي النهاية، المهنيون يصنعون الفن لكن الجميع يتلقونه في كل لحظة وحين. والإنتاج فني - موسيقي هنا، لكن المشروع بتفاصيله وأهدافه يمكنه بالتأكيد أن يطبق على بقية الصنائع والفنون، وفي نهاية الأمر نعرف أن ليس من الضروري لبيرليوز أن يخبرنا عن انتساب مشروعه إلى السان سيمونية، بل لعله كان أفضل بالنسبة إليه ألا يتحدث عن ذلك طالما أن النسب إلى السان سيمونية كان من شأنه أن يضفي على أفكار الموسيقي الكبير بعداً أيديولوجياً لا يريد له أن يكون على مثل ذلك الوضوح.

نحو تنظيم مدني شامل

لكن ثمة أموراً تنظيمية لا يرى بيرليوز مهرباً من توضيحها والتوقف عندها بشكل خاص، ولعله كان يرى نوعاً من التسلية في ذلك، في زمن كان وعي النخب المتقدمة في مجتمعات النصف الأول من القرن الـ 18، قد بات من التقدم، وتحديداً بفضل الثورة الفرنسية التي كانت تعشش في كل الأذهان، إلى درجة بات معها كبيراً إحساس كل فرد من الأفراد بأن في إمكانه أن يشارك، في رأيه على الأقل، في اقتراح ما يراه مناسباً لتنظيم حياته وحياة الناس. ولعل المثال الأسطع على ذلك هو الأرغن الضخم الذي ينظم بنغماته الحياة الاجتماعية للمواطنين المميزين من سكان إيفونيا، فتلك النغمات إذ تعلو في أوقات محددة، هي التي تدعو السكان إلى تناول وجباتهم وإلى اجتماعات الأحياء المختلفة كما إلى التمارين الموسيقية سواء كانت متخصصة أو عامة. وهي تعطى إذاً من طريق ذلك الأرغن الكبير الذي يعلو أعلى مبنى في المدينة مشرفاً على كل المباني الأخرى، وتصل أنغامه إلى أبعد من أربعة فراسخ (بين أربعة وستة كيلومترات) من مكانه. ويحدد بيرليوز أن لغة ذلك الأرغن ليست سوى "تلغراف الأذن الذي لا يمكن أن يفهم لغته سوى الإيفونيين"، فهم وحدهم بالتالي الذين يتلقون "الهاتف" ويعرفون معنى إشاراته، وذلك تبعاً لاختراق كان قد أتى به أواسط القرن الـ 19 العالم سوبر، ويبدو أن بيرليوز كان من أول الذين اطلعوا عليه، فأدمجه في مشروعه الخلاق. ومن هنا بات مسؤولو إيفونيا، بدورهم، مطلعين على ذلك التفصيل العلمي الهام، وقادرين على استخدامه ولا سيما في تعميم ما ينبغي فعله في لحظة معينة!