Image

بعيدا من الأسد... روسيا لن تترك الساحة السورية

تطورات المشهد السوري متسارعة للغاية، فمنذ إطلاق "هيئة تحرير الشام" من إدلب شمال غربي سوريا عملية "ردع العدوان" بغية اقتحام حلب نجحت قواتها بالسيطرة على كامل المدينة وريفها مع التقدم السريع صوب مناطق في ريف إدلب واستكمال السيطرة على مدينة حماة وسط سوريا، في حين تدور اشتباكات للسيطرة على حمص بهدف إكمال الطريق نحو العاصمة.

وقابل التقدم السريع تهاوي الخطوط الدفاعية الأولى وانسحاب القوات النظامية للخلف، لا سيما في دير الزور شرق البلاد، وكذلك في السويداء ودرعا في سياق تمتين الخطوط الدفاعية بحمص وريف العاصمة من الجهة الجنوبية، وتترافق هذه الأحداث مع تراجع الدور الروسي السياسي والعسكري حيث يرى مراقبون أن المشهد في غاية التعقيد بعد انسحاب الفصائل الموالية لإيران.

التخلي عن الساحة

يأتي ذلك وسط معلومات تناقلتها وكالات ووسائل إعلام عن طلب السفارة الروسية من رعاياها مغادرة البلاد. في المقابل يجزم الباحث الروسي في شؤون السياسة الخارجية رولاند بيجاموف لـ"اندبندنت عربية" بأن خبر مغادرة الرعايا مزيف، والصحيح هو أن موسكو أخبرت مواطنيها الموجودين على الأراضي السورية بأن لديهم فرصة للمغادرة، ولا توجد أي أوامر بذلك، وهو قرار شخصي يخصهم وسط تقديم المطار خدماته حالياً، كما أن السفارة تعمل بصورة طبيعية.

ويرى بيجاموف أن موسكو لا تزال متمسكة بمساندة سوريا، ومن الصعب التخلي عن الساحة بهذه السهولة متابعاً، "هناك موقف صامد لمساندة الحكومة في دمشق، ولا أعتقد أن الروس يمكنهم التخلي عن موقفهم الثابت وعن قواعدهم الاستراتيجية بهذه السهولة، ومنها القاعدتان البرية والجوية في الساحل السوري".

وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وصف ما يحدث بـ"اللعبة المعقدة"، مؤكداً أن استقرار الأوضاع في سوريا ليس بالأمر السهل إذ يشارك فيها عدد كبير من الأطراف. وقال مصدر في "الكرملين" لموقع "بلومبيرغ" الأميركي، إن بلاده لا تتوقع أي خطة لإنقاذ بشار الأسد ما دام الجيش يترك مواقعه.

في السياق ذاته نشرت السفارة الروسية لدى دمشق توضيحاً مفاده أنها تحث مواطنيها على مغادرة سوريا، وتؤكد أن السفارة والقسم القنصلي يعملان بالصورة المعتادة. وبالتوازي ذكرت الاستخبارات الأوكرانية عن نشر موسكو قوات تسمى "فيلق أفريقيا" في سوريا (وهي قوات أنشئت لتحل مكان مجموعة "فاغنر" في القارة الأفريقية، ضمن مناطق محيط طرطوس (تبعد 89 كيلومتراً عن حماة) بعد الخوف من اقتحام المجموعات المسلحة مواقع النفوذ الروسي بعد سقوط حماة بوسط البلاد، كما وثق ناشطون عبر منصات رقمية انسحاب منظومة الصواريخ للقوات الروسية من "مصياف" في ريف المدينة.

وبدأ التدخل الروسي بمجريات الأحداث السورية في 30 سبتمبر (أيلول) عام 2015 عبر استخدام سلاح الجو الروسي بتوجيه ضربات جوية في الأراضي السورية بطلب من دمشق لكبح تقدم قوات المعارضة المسلحة، وبعد موافقة مجلس الاتحاد الروسي على تفويض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استخدام قوات البلاد المسلحة خارجياً. وتنتشر روسيا على الأراضي السورية عبر 21 قاعدة إضافة إلى 93 نقطة عسكرية.

وأسهمت روسيا بإعادة السيطرة على مناطق واسعة استعادتها من قوات المعارضة ومن أبرزها حلب، ونقلت المعارضين إلى مناطق في إدلب شمال غربي سوريا عام 2017، وانتظمت بمفاوضات مع اللاعبين الدوليين والدول الكبرى لتتوصل إلى منطقة خفض تصعيد شمالاً سميت منطقة (بوتين - أردوغان).

من موسكو تحدث مدير مركز "جي أم أس" للأبحاث والدراسات آصف ملحم لـ"اندبندنت عربية" قائلاً، إنه "حتى لو طلبت موسكو من رعاياها مغادرة البلاد فإن هذا أمر طبيعي، ولا بد ألا نخلط الأمور ببعضها"، في إشارة إلى أن الرعايا الروس هم مدنيون ولا يجب أن يتعرضوا لأعمال عنف من أي جهة، فمن الممكن أن تحدث اشتباكات ضمن الأحياء السكنية أو تسقط قذائف، ومن المعروف أن روسيا تدعم دمشق، وهم بذلك معرضون للخطف والأذى.

وأضاف، "تخلي روسيا عن سوريا يعني خسارة كبيرة لكل جهودها التي بنتها في المنطقة وفي بناء نظام دولي جديد، وعلى راسم السياسة والقرارات السياسية ألا تأخذه زحمة الأخبار العاجلة، ولا يمكن لروسيا أن تبث أنباء غير حكيمة في وقت تتطور علاقاتها مع الدول العربية".

بالحديث عن الموقف الميداني سجلت خطوط التماس والمعارك تقدماً لقوات "هيئة تحرير الشام" في أحياء حمص، بينما استولت فصائل مسلحة في درعا والسويداء على المقار الأمنية ومقرات الجيش النظامي، مع إغلاق معبر نصيب الحدودي بين سوريا والأردن. في المقابل أعلنت القوات المسلحة النظامية انسحاب قواتها العاملة من درعا والسويداء وإعادة انتشارها وتموضعها بإقامة طوق دفاعي وأمني قوي ومتماسك على ذلك الاتجاه، وجاء في بيان لوزارة الدفاع أن ذلك "يأتي حرصاً على أمن الوطن والمواطنين".

في غضون ذلك يستبعد الباحث الروسي في الشأن السياسي بيجاموف تخلي موسكو عن دمشق وقواعدها الجوية والبرية بعدما نجحت بالسعي خلال الأعوام الماضية جاهدة للوصول إلى المياه الدافئة.

وتابع، "لدى روسيا نقطة الدعم في طرطوس وقاعدة (حميميم)، وليس من السهولة مغادرة هذه المناطق إلا بحدوث أسوأ السيناريوهات ومنه سقوط النظام في دمشق، ومن السابق لأوانه الحديث عن انسحاب روسي، ولا بد من التذكير أن كلاً من روسيا والنظام السوري كانا في ظروف أصعب من تلك وتخطياها، وبصرف النظر عن انشغال موسكو بالجبهة الأوكرانية يريد أعداؤها إشغالها في سوريا، ولكنها على قدر التحدي، والساحة السورية لا تقل أهمية عن الساحات الأخرى".

من يربح الأوراق؟

في الأثناء يدور الحديث عن تسجيل انسحابات مكثفة للقوات الروسية في الشمال السوري والمنطقة الوسطى وفق مصادر ميدانية، بينما كشفت تقارير إعلامية عن تحركات عسكرية روسية تزامناً مع استمرار الاشتباكات وتقدم فصائل المعارضة، ومن تلك التحركات ما يجري بالأسطول البحري في قاعدة "طرطوس" غرب سوريا.

وكشفت صور للأقمار الاصطناعية عن سحب روسيا كامل الأسطول من هناك في خطوة جديدة وغير متوقعة، وفق ما أفاد به معهد دراسات الحرب في واشنطن، وهي خطوة تشير إلى أن موسكو لا تنوي إرسال تعزيزات كبيرة للدعم.

وأشار المعهد في مستهل تقريره إلى ما تظهره صور الأقمار الاصطناعية من إخلاء فرقاطات حربية وغواصة وسفينتين مساعدتين من القاعدة البحرية، وهو ما يعادل جميع السفن الروسية التي كانت متمركزة في "طرطوس".

وأفاد مدير الأبحاث في "جي أم أس" بأن الطيران الروسي لم يهدأ، وكان دائم الحركة بين مطار حميميم ومناطق القصف، مؤكداً أن روسيا تقصف مخازن الذخيرة والمسلحين، لا بد من رسم خطط لذلك.

وأردف، "بعض الناس تتمسك بالنظر إلى اجتماع بين وزراء خارجية إيران وتركيا وروسيا وقطر في الدوحة، وهذا الاجتماع يعقد على هامش منتدى الدوحة 2024، ومن الطبيعي مناقشة ملفات مختلفة، والتركيز الإعلامي على الاجتماع هو لمحاولة إعطائه قيمة لحل المسألة السورية".

ويشرح الباحث السياسي ملحم أن كل الأنباء تشير إلى وجود ضباط استخبارات أوكرانيين وخبراء في القتال واستخدام الطائرات المسيرة، وهو ما زاد من زخم القوات المسلحة المعارضة. متابعاً "هذا ما فعلته كييف في مالي بدعم بعض المجموعات لمقاتلة عناصر (فاغنر)، وكذا في أفريقيا الوسطى وليبيا حيث تدخلت كييف على خطوط هذه الأزمات لمحاربة الوجود الروسي، وهناك من يقول، إن روسيا غير راضية عن نظام الأسد، وأعتقد أن القضية تتعلق بمسائل أكبر من الجغرافيا السورية نفسها، ولن تفرط موسكو بسوريا، وأي انتقال سياسي سيحصل فيها يجب أن يتم بعد إنهاء الحال الإرهابية".

بالنتيجة يمكن القول، إن روسيا تحارب حتى النفس الأخير عبر المفاوضات، لكن التقدم السريع لـ"هيئة تحرير الشام" خلط أوراق اللعبة، ولعل التركي بات الرابح الأكبر لأوراق التفاوض، إذ ترك الباب موارباً أمام دمشق ولم يغلقه، بينما الدعم العسكري لن يكون بمقدور موسكو، وبحسب محللين ليس ممكناً إعادة كل هذه المساحات في المدة نفسها التي استحوذت عليها القوات المهاجمة، إذ يحتاج الأمر إلى وقت كبير وتجهيزات عالية الدقة، لا سيما مع استخدامهم للطائرات المسيرة التي أعطتهم قوة إضافية للتقدم على الأرض.