Image

نيران التوترات الجيوسياسية تلتهم النمو الاقتصادي عالميا

في ظل تصاعد حدة المخاطر الجيوسياسية العالمية تتفاقم تأثيرات الحروب والنزاعات المسلحة بشكل متسارع على النمو الاقتصادي الدولي.

تسلط الحرب في أوكرانيا وكذلك الصراع المتشعب في الشرق الأوسط على وقع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس، والصراع بين إسرائيل وإيران، والضربات الإسرائيلية على لبنان، الضوء على المدى الذي تشكل فيه تلك التطورات الجيوسياسية عاملاً رئيسياً في تحديد الأداء الاقتصادي العالمي، إلى جانب الحروب والصراعات الأخرى، وكذلك الانقسام التجاري.

تعكس تلك المخاطر تجليات ملموسة للصراعات التي تعصف بالاستقرار الاقتصادي وتعمق من الأزمات المالية والاقتصادية، ذلك أن هذه النزاعات -بما تحمله من تداعيات على سلاسل التوريد وارتفاع أسعار السلع الأساسية- تفرض تحديات هيكلية أمام النمو الاقتصادي، مما يضع مزيداً من العقبات في مواجهة تداعياتها المباشرة وغير المباشرة على مختلف القطاعات والمؤشرات الاقتصادية.

لم يكد العالم يتعافى من جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية الشديدة، إلا وقرعت أجراس الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير من العام 2022، في لحظة فاصلة تختلف تفاصيل المشهد الاقتصادي بعدها عما قبلها إلى حد كبير؛ بعد أن تسببت العملية العسكرية الروسية -كما يُطلِق عليها الكرملين- في اضطرابات واسعة النطاق في سلاسل التوريد العالمية، مما أدى إلى اختلالات هيكلية في الأسواق العالمية. إذ تعتبر أوكرانيا وروسيا من الموردين الرئيسيين للحبوب، فضلاً عن المكانة التي تشغلها موسكو في أسواق الطاقة، وهو ما جعل تداعيات النزاع بين البلدين تتجاوز الحدود الإقليمية لتؤثر على الاقتصاد العالمي برمته.

ارتفاع أسعار الطاقة نتجت عنه زيادة في تكاليف الإنتاج والنقل، مما ألقى بظلاله على أسعار السلع والخدمات وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم في عديد من الدول. هذا التضخم المتصاعد، مقترناً باضطرابات سلاسل التوريد، أدى إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة معدلات البطالة، مما يعمق من الأزمة الاقتصادية العالمية، وبما قاد البنوك المركزية إلى سياسة التشديد النقدي لكبح جماح التضخم الجامح على مدى أكثر من عامين، وهي السياسة التي بدأت تؤتي ثمارها تدريجياً أخيراً وبمعدلات متفاوتة.

وبينما لا يزال العالم يرزح تحت وطأة التأثير الواسع للحرب في أوكرانيا، نشب صراع آخر في منطقة شديدة الأهمية بالنسبة للتجارة الدولية، وهي منطقة الشرق الأوسط، بدأ بالحرب بين إسرائيل وحركة حماس منذ 7 أكتوبر 2023، ليضع العالم أمام سيناريوهات "شديدة التعقيد" لا سيما حال توسّع دائرة الصراع وسيناريوهات الحرب الإقليمية.

الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة أضافت بعداً آخر للأزمة الاقتصادية العالمية من خلال تهديد الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، وهو ما ينعكس على الأسواق المالية والتجارية العالمية، لا سيما وأن التوترات في هذه المنطقة الحيوية تؤدي إلى تقلبات حادة في أسعار النفط، مما يزيد من حالة عدم اليقين في الأسواق العالمية ويثبط الاستثمارات الأجنبية المباشرة. بالإضافة إلى ذلك، أدت التوترات في البحر الأحمر إلى ارتفاع تكاليف التأمين على المخاطر التجارية والشحن (علاوة المخاطر)، مما يزيد من تكاليف النقل واللوجستيات ويضفي مزيداً من العراقيل أمام حركة التجارة العالمية.

وفي السياق، ووسط "آفاق متقلبة" تؤكد تقارير صندوق النقد الدولي، مأزق الاقتصاد العالمي تحت وطأة الأزمات الجيوسياسية، التي تضعف النمو الاقتصادي حول العالم. وتشير توقعات النمو في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى تسجيل 2.7 بالمئة للعام الجاري  و4.2 بالمئة  للعام 2025 وفي الاقتصادات المتقدمة 1.7 بالمئة في 2024 و 1.8 بالمئة في 2025.

أما فيما يتعلق بالنمو العالمي، يتوقع الصندوق نمواً بنسبة 3.2 بالمئة لعام 2024 و 3. 3 بالمئة لعام 2025 (أقل من المتوسط منذ مطلع هذا القرن وحتى تفشي كورونا).

ووفقاً لبيانات البنك الدولي، الصادرة مطلع هذا العام، ومع اقتراب منتصف هذا العقد الذي كان من المقرر أن يشهد آثارا تحولية على صعيد التنمية، فمن المتوقع أن يسجل الاقتصاد العالمي معدلات "تدعو للأسف" في نمو إجمالي الناتج المحلي بنهاية عام 2024، هي الأدنى والأبطأ في فترة 5 سنوات على مدى 30 عاماً.

تبعات الانقسام العالمي

وإلى ذلك، فإن "الانقسام  والتفتت الاقتصادي العالمي" وفي ظل المخاطر الجيوسياسية المتصاعدة على نحوٍ واسع، يهدد بخسارة الاقتصاد العالمي ما قد يصل إلى 7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (7 تريليونات دولار) ، بحسب غيتا كوبيناث نائبة مديرة صندوق النقد الدولي.

يعزى ذلك الانقسام –الذي أججته الحرب في أوكرانيا- إلى عوامل سياسية واقتصادية مختلفة قسّمت العالم إلى معسكرين رئيسيين؛ شرقي بقيادة روسيا والصين، وغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وسط تنافس محموم، في ضوء بنية جديدة تعتمل في الأفق بالنسبة للنظام الدولي، وللتحول من نظام أحادي القطبية إلى نظام ثنائي أو متعدد الأقطاب، بحسب مستشار البنك الدولي، محمود عنبر، والذي يقول إن لذلك الانقسام تبعات اقتصادية واسعة، لا سيما في ظل استخدام كل طرف أدواته للضغط على الطرف الآخر، من بينها على سبيل المثال حرب الرسوم الجمركية، والحرب التجارية الأوسع نطاقاً.

تمخضت عن ذلك الصراع تكتلات عديدة، تتبنى استراتيجيات خاصة لتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في مواجهة الأطراف الأخرى.

تتفاعل تلك التأثيرات مع وضع أمني وجيوسياسي غير مستقر، وبما يمثل إرباكاً أوسع للمشهد، ويسهم في تصاعد المخاطر على نحو كبير في ضوء حالة الاستقطاب الدولي الراهنة ولما لها من تداعيات مُربكة على مشهد الحروب والأزمات حول العالم.

تقديرات صندوق النقد الدولي، والتي ذكرتها غيتا كوبيناث (نائبة مديرة الصندوق) قبل نهاية العام الماضي، تقدر الأضرار الناجمة عن الانقسام العالمي بخسارة تصل إلى 2.5 بالمئة من الناتج الإجمالي، أو ما يعادل 2.5 تريليون دولار، وقد تصل تلك النسبة إلى 7 بالمئة باختلاف قدرات الاقتصادات على التكيف مع التحولات التي تشهدها التجارة العالمية مع ذلك الانقسام أو "الحرب الباردة الجديدة".

ووفق دراسة لمعهد الاقتصاد والسلام، فإن الصراعات وأعمال العنف حول العالم تكلف الاقتصاد الكلي 17.5 تريليون دولار في القوة الشرائية، وبما يعادل 12.9 بالمئة من الناتج في العام 2022، بزيادة 6.6 عن العام 2021 وذلك بدفع من تأجج الحرب في أوكرانيا.

إعادة توجيه موازنات الدول

ويقول مدير المركز العالمي للدراسات التنموية والاقتصادية، صادق الركابي، إنه منذ الحرب في أوكرانيا وصولاً إلى التوترات الأخيرة في الشرق الأوسط ارتفعت حدة النزاعات والحروب، ما يكبد العالم خسائر بنحو 19 تريليون دولار (..)، وهي مبالغ ضخمة كان يمكن أن تُستثمر في مجالات حيوية كالتعليم والصحة والبنى التحتية وغيرها من مجالات التنمية المختلفة.

  • بحسب مؤشر السلام العالمي، فقد ارتفع الأثر الاقتصادي العالمي للعنف إلى 19.1 تريليون دولار في العام 2023، أو ما يعادل 2380 دولارًا للشخص الواحد، وهو ما يمثل 13.5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
  • وفق هيئة "سوق التأمين لويدز أوف لندن" فإن أي صراع جيوسياسي يضر بسلاسل الإمداد قد يتسبب في خسائر للاقتصاد العالمي تصل إلى 14 تريليونا و500 مليار دولار على مدى 5 سنوات.

ويوضح الركابي أن تلك التوترات أسهمت في إعادة توجيه موازنات بعض الدول وتخصيصها مبالغ ضخمة للدفاع وشراء الأسلحة وذلك على حساب الميزانيات المخصصة للمشاريع التنموية (..) بالإضافة إلى ذلك فقد أسهمت الحروب في تدمير البنى التحتية الأساسية في العديد من المناطق في العالم وحرمت أهلها من الطرق والمدارس والمستشفيات والخدمات العامة.

  • الإنفاق العسكري العالمي، سجل مستويات قياسية عند 2.44 تريليون دولار في العام الماضي 2023، وهو العام الذي شهد أكبر زيادة سنوية (6.8 بالمئة) في الإنفاق الحكومي على الأسلحة منذ نحو عقد من الزمن، وفق بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام، الصادرة في شهر أبريل الماضي.
  • وفيما يعكس تنامي الصراعات والتهديدات والتوترات الجيوسياسية، سجلت البيانات ارتفاعاً جماعياً في الإنفاق العسكري في المناطق الجغرافية الخمس الرئيسية.

ويقول إنه في الوقت الذي يرتفع فيه الإنفاق على التسلح فقد ارتفع معدل الفقر في الدول التي يعيش سكانها في مناطق النزاع إلى 34.8 بالمئة، حيث ارتفعت أعداد النازحين، وأجبر الناس على ترك وظائفهم ومواردهم، وهو ما يتطلب توفير استثمارات ضخمة ستنفق على إيجاد الحلول لتلك المشكلات بدلًا من إنفاقها لتحقيق التنمية المستدامة.

كما يؤكد أنه ما إن استمرت حدة التوترات الإقليمية بالارتفاع فقد نشهد نزاعات جديدة تتسع دائرتها إلى مناطق جديدة من العالم، لافتًا إلى أن ذلك سيكون له تداعيات سلبية، منها تأثر سلاسل الإمداد العالمية بشكل سلبي، إضافة إلى فقد ثقة المستثمرين مع تراجع استثماراتهم.

ويضيف: "النزاعات الدولية والحروب زادت من الضغط على الموارد الرئيسية للدول، ورفعت من أسعار السلع والخدمات وارتفعت مع ذلك معدلات التضخم"، موضحاً أنه من المتوقع أن يرتفع معدل الدين العام العالمي ليصل إلى 93 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول نهاية هذا العام 2024، وهو ما يهدد بزيادة عدد من هم في دائرة الفقر عالمياً (..).

سيناريوهات مستقبلية

ويؤكد الركابي أنه حال ارتفعت حدة التوترات العالمية وتراجعت وتيرة التعاون الدولي، فإن التنمية ستكون أولى الضحايا، كما ستكون الدول على موعد جديد من بيانات سلبية تؤثر في أداء الاقتصاد العالمي وتتراجع معه قدرة الحكومات على تجاوز الأزمات.

وينوه بأن النزاعات الإقليمية والصراع على الموارد سيؤدي بلا شك إلى تراجع الإنفاق الحكومي على التنمية المستدامة، بما في ذلك قطاعات التعليم والصحة والخدمات، وأوضح أن ذلك سيؤدي إلى:

  • تراجع معدل التجارة الدولية: قد تسهم هذه النزاعات في تعميق حالة الانقسام الدولي وعرقلة التجارة العالمية كونها تعرقل سلاسل التوريد وتزيد من تكاليف النقل والشحن بالإضافة إلى ارتفاع أسعار السلع ونقصها.
  • اضطرابات اقتصادية: ستكون الدول المتأثرة بالنزاع على موعد مع العديد من الاضطرابات الاقتصادية التي ستضطرّها لتقليل النفقات الحكومية وزيادة الاقتراض وسط ارتفاع التكاليف وتراجع الاستثمارات ما يعيق النمو الاقتصادي في مناطق النزاع.

ويؤكد مدير المركز العالمي للدراسات التنموية والاقتصادية أن تأثير الحروب والنزاعات بشكل عام سيكون سلبياً على التنمية البشرية والاقتصادية ولا يمكن التكهن باتساع مداها، فإذا ما استمرت الأوضاع الحالية، فسيكون من الصعب تحقيق التنمية المستدامة، أو احتكارها في مناطق معينة من العالم.

عوامل التعافي

في السياق، يلفت الباحث في الشؤون الاقتصادية، مازن أرشيد، إلى أن من أبرز التأثيرات المترتبة على التوترات الجيوسياسية ارتفاع أسعار النفط، حيث أن أي اضطراب في منطقة الشرق الأوسك يؤدي إلى زيادة فورية في الأسعار.

 ويشير إلى أنه في العام 2023، وصلت أسعار النفط إلى حوالي 90 دولارًا للبرميل نتيجة تصاعد المخاطر والتوترات، مما أدى إلى زيادة التكاليف التشغيلية للشركات وإضعاف القدرة الشرائية للمستهلكين، موضحًا أن هذه الضغوط تمثل ضربة للنمو الاقتصادي العالمي، حيث تشير التقديرات إلى أن ارتفاع أسعار الطاقة أسهم في خفض معدل النمو العالمي بنحو 0.5 بالمئة خلال عام 2023.

ويضيف إلى ما سبق معاناة سلاسل التوريد العالمية من تأثير الحروب والصراعات، مما يؤدي إلى تعطيل حركة التجارة ونقل السلع، فعلى سبيل المثال، الصراع في أوكرانيا أدى إلى نقص في الحبوب والمواد الخام، مما أثر بشكل خاص على الدول النامية التي تعتمد على الاستيراد.

ويفيد بأنه بحسب البنك الدولي، فإن تكلفة الغذاء العالمية ارتفعت بنسبة 15 بالمئة في عام 2023، مما أدى إلى تفاقم الفقر الغذائي في العديد من المناطق حول العالم، مؤكدًا أن هذا الضغط على الاقتصادات المتقدمة والناشئة يعيق تحقيق أهداف التنمية المستدامة، ويقلل من القدرة على الاستثمار في التعليم، الصحة، والبنية التحتية.

كما يؤكد أنه لا يزال هناك أمل للتعافي، مشيرًا إلى أن ذلك التعافي يعتمد على عدة عوامل رئيسية، منها:

  • أن يكون هناك استقرار جيوسياسي، حيث إن التوصل إلى حلول سلمية في مناطق النزاع سيكون عاملًا حاسمًا في تهدئة الأسواق وإعادة الثقة إلى المستثمرين.
  • أن تكون هناك سياسات اقتصادية تحفيزية على مستوى الدول الكبرى، مثل زيادة الإنفاق على البنية التحتية وتعزيز التجارة الحرة. فعلى سبيل المثال بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، ساهمت السياسات التحفيزية من قبل الحكومات والبنوك المركزية في انتعاش الاقتصاد العالمي خلال فترة قصيرة نسبيًا.

التعافي أيضًا يرتبط بالابتكار التكنولوجي والانتقال إلى مصادر طاقة متجددة، فالاستثمار المتزايد في الطاقة النظيفة قد يساعد في تقليل الاعتماد على النفط والغاز، وهو ما سيخفف من حدة تأثير أي صراع في مناطق إنتاج الطاقة التقليدية.

عوامل سياسية

وفي السياق، تؤثر القرارات والنهج السياسي للحكومات في الاقتصاد العالمي بشكل مباشر؛ فاحتمال وصول دونالد ترامب مرة أخرى إلى البيت الأبيض على سبيل المثال ومع سياساته الحمائية، قد يؤدي إلى فرض تعريفات جمركية إضافية على الواردات، يمكن أن يزيد ذلك من التوترات التجارية مع الصين والاتحاد الأوروبي.

والاقتصاد الأميركي باعتباره أكبر اقتصاد في العالم له ثقله في حركة ومعدل التجارة العالمية، لذا فإن تفضيل ترامب لسياسة الاتفاقيات الثنائية على حساب الاتفاقيات متعددة الأطراف قد يؤدي إلى تعقيدات في التجارة العالمية ما يقلل من الفوائد التي تجنيها الدول.