Image

زيادة الإنفاق العسكري تهدد مستقبل اقتصاد روسيا

على مدى العامين الماضيين، ومع بدء الحرب في أوكرانيا، يشهد الاقتصاد الروسي أداء جيداً يفوق في بعض الأحيان أداء نظرائه بين الاقتصادات المتقدمة وغالباً ما يستخدم البريطانيون المقارنة في انتقاد حكومتهم بسبب الأداء الاقتصادي المتردي في بعض الأرقام التي تظهر نمواً اقتصادياً أفضل في روسيا ومستوى تحمل أعباء المعيشة للروس أفضل من البريطانيين.

المفارقة، أن من بين عوامل تمتع روسيا بهذا الوضع الاقتصادي الجيد في ظل العقوبات الصارمة التي تفرضها أميركا والغرب عليها هو ما يمكن تسميته "اقتصاد الحرب" الذي يتضمن زيادة الإنفاق العسكري، لكن إدارة الرئيس فلاديمير بوتين وازنت ذلك بزيادة الإنفاق العام وتوفير الدعم المباشر وغير المباشر للمواطنين مع اتباع سياسة نقدية ومالية منضبطة في الوقت ذاته.

يبدو الآن برأي المتخصصين والمحللين، أن عامل "اقتصاد الحرب" الذي ربما حافظ على استمرار نمو الاقتصاد الروسي وتوسعه وخفف أعباء المعيشة على الروس سيكون السبب في صعوبات اقتصادية تواجهها موسكو في العامين أو الثلاثة المقبلة، خصوصاً مع زيادة الإنفاق العسكري لتلبية متطلبات الحرب في أوكرانيا، التي لا تبدو آفاق مستقبلها واضحة، وأيضاً بسبب الضغط على سوق العمل نتيجة نقص العمالة مع زيادة التجنيد للحرب من بين من هم في سن العمل وكذلك مع هجرة العمالة الوافدة إلى خارج روسيا.

اختلالات مالية

إلى ذلك، أقرت الحكومة الروسية برئاسة ميخائيل ميشوستين الأسبوع الماضي مشروع موازنة 2025 – 2027 التي اعتبرها المحللون ستؤدي إلى "تعميق الاختلالات في مالية الحكومة"، بحسب نص مشروع الموازنة الذي ترجمته وكالة "رويترز" عن وكالة روسية. واستند هؤلاء في تحليلهم إلى عامل أساس وهو الزيادة غير المسبوقة في بند الإنفاق العسكري في الموازنة الجديدة الذي يزيد من أخطار اتساع فجوة الخلل المالي.

وطبقاً لمسودة مشروع الموازنة، يرتفع الإنفاق العسكري الروسي ليصل إلى 13.5 تريليون روبل (145 مليار دولار) في العام المقبل 2025 بزيادة 25 في المئة عن مستوى الإنفاق العسكري في العام الحالي 2024، ويمثل ذلك البند المتزايد 6.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الروسي.

في سياق محاولة موسكو الالتفاف على العقوبات التي تحول دون حصولها على أي معدات أو مكونات تدخل في الصناعات العسكرية، تزيد الحكومة من مخصصات الإنفاق على الصناعات الدفاعية والأمنية للحفاظ على قدراتها بينما الحرب مستمرة في أوكرانيا. لذا، وبحسب مشروع الموازنة الجديدة، يصل نصيب الإنفاق على الدفاع والأمن الوطني إلى 40 في المئة من إجمال الإنفاق الحكومي العام، ويتجاوز ذلك ضعفي مخصصات الإنفاق على الحاجات الاجتماعية مثل معاشات التقاعد وغيرها.

وعلى رغم أن هذا الإنفاق العام السخي يدعم نمو الناتج المحلي الإجمالي عموماً، فإن المحللين يرون أنه يمثل خطر تدهور مستويات المعيشة للمواطنين الروس في ظل استمرار ارتفاع الأسعار، كما ذكر تقرير لشبكة "سي أن بي سي" الأميركية.

ضغوط تضخمية

حتى الآن، تشير الأرقام وبيانات الاستطلاعات وغيرها، حتى من المصادر الغربية وليس حسب نظيرتها الروسية الرسمية، إلى أن وضع الاقتصاد الروسي جيد بصورة تثير الدهشة بسبب الإنفاق على الحرب والعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على البلاد، إلا أن مشروع الموازنة الجديدة يثير المخاوف في شأن مستقبل هذا الاقتصاد في العامين المقبلين بصورة واضحة، بغض النظر عن مدى استمرار عائدات صادرات الطاقة الروسية، التي تضررت بالفعل نتيجة العقوبات.

في مذكرة له الأربعاء الماضي، كتب المسؤول عن شرق ووسط أوروبا في شركة "تينيو" للاستشارات أندريوس تورسا يقول إن "نية الحكومة الروسية استمرار الإنفاق العسكري عند المستويات ذاتها حتى عام 2027 تشير إلى أن البلاد لديها الموارد المالية والإرادة السياسية للاستمرار في توسيع وإعادة تشكيل القوات المسلحة، وذلك عكس ما نشهده تماماً على الجانب الأوكراني وبالنسبة إلى الغرب".

هذا على صعيد توقعات الصراع العسكري، لكن التبعات على الاقتصاد ربما لا تكون إيجابية، كما يضيف تورسا بأنه "على رغم الإنشاء الخطابي السياسي الواثق والتوقعات المتفائلة، فإن مزيداً من عسكرة الاقتصاد المدعوم بالإنفاق الحكومي الهائل قد يكون صعباً استمراره بهذه الصورة في المديين المتوسط والطويل".

فالاقتصاد الروسي وصل إلى سعته القصوى تقريباً، ويمكن أن يبدأ في مواجهة الضغوط العام المقبل بحسب ما كتب تورسا.

تعد الضغوط التضخمية في الاقتصاد الأكثر احتمالاً أن تواصل الزيادة مع تراجع القدرة على ضبط معادلة العرض والطلب، يضاف إلى ذلك الضغط على سوق العمل نتيجة التراجع المستمر في القوى العاملة نتيجة التجنيد للحرب والهجرة.

ومع استمرار الزيادة في الإنفاق الحكومي، خصوصاً على المجمع الصناعي والعسكري، ستضطر الدولة إلى تمويل ذلك الإنفاق من زيادة الضرائب مثل الضريبة على المساكن والخدمات العامة.

ويصل معدل التضخم في روسيا إلى 9.1 في المئة، ورفع البنك المركزي الروسي سبتمبر (أيلول) الماضي سعر الفائدة مجدداً بمقدار نقطة مئوية كاملة ليصبح عند نسبة 19 في المئة، متوقعاً أن "تظل الضغوط التضخمية في الاقتصاد عالية بصورة عامة".

مستوى المعيشة

من المتوقع أن تواصل الأوضاع المعيشية للروس التدهور، حتى على رغم أن بمقدور المواطنين الآن الإنفاق بسبب ما لديهم من مدخرات وبسبب أن الإنفاق الحكومي، حتى العسكري منه، يعود على العاملين بزيادة الدخل، فإن رفع سعر الفائدة مرة أخرى إلى 20 في المئة مثلاً، وهو احتمال قوي، سيزيد من التشديد الائتماني وقدرة المستهلكين والشركات على الاقتراض للإنفاق.

في تحليل نشره سبتمبر الماضي، يرى كبير الاقتصاديين في "كابيتال إيكونوميكس" ليام بيتش أن "عدم مواجهة الاختلالات في معادلة العرض والطلب سيؤدي بالضرورة إلى مزيد من ارتفاع الأسعار"، مضيفاً أنه "بينما سيساعد الدخل الشخصي وزيادة ضرائب الشركات في تمويل بعض من بنود مشروع الموازنة لعام 2025، إلا أن الوضع المالي سيظل مائعاً إلى حد كبير، وإلى جانب القيود على جانب العرض سيؤدي ذلك إلى بقاء معدلات التضخم مرتفعة وستواصل خدمة الديون من قبل الحكومة الارتفاع في ظل وصول عائدات سندات الدين السيادي إلى أعلى المستويات".

تتطلع الأنظار الآن إلى توقعات صندوق النقد الدولي للاقتصاد الروسي التي تصدر الأسبوع المقبل، ويتوقع كثير تعديلاً في تلك التوقعات عن سابقاتها.

ويذكر أن مشروع الموازنة الجديدة يستند إلى تقدير نمو الناتج المحلي الإجمالي 2.5 في المئة في العام المقبل 2025.