جون بولتون | ماذا يخبئ المستقبل للشرق الأوسط؟
بعد مرور عام على إطلاق "حماس" ما عُرف بإستراتيجية "حلقة النار" التي تتبعها إيران وشنها هجوماً همجياً على المدنيين الإسرائيليين، تغيرت معالم الشرق الأوسط بصورة جذرية، واليوم ينتظر العالم برمته رد القدس على الهجمات بالصواريخ الباليستية التي أطلقتها طهران الأسبوع الماضي، والتي اعتُبرت أكبر رد من نوعه في التاريخ.
وقد شكل ذلك الهجوم المباشر الثاني من نوعه الذي يشن من الأراضي الإيرانية ضد إسرائيل خلال الحرب الدائرة بعد الهجوم الأول في أبريل (نيسان) الماضي بالمسيرات والقصف المشترك بالصواريخ الباليستية وصواريخ الكروز، ولا نعلم حتى الساعة كيف سيرد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لكن المؤكد أن رد إسرائيل سيكون أقوى بكثير من الرد في أبريل الماضي.
في غضون ذلك من الواضح أن "حلقة النار" الإيرانية تنهزم، إذ تقوم إسرائيل بصورة ممنهجة بتدمير "حماس" و"حزب الله" اللذين يُعتبران الركيزتين الأساسيتين للقوة الإرهابية الإيرانية، وأياً يكن ما سيحدث اليوم بين القدس وطهران فإن الجهود الإيرانية الرامية إلى إضعاف إسرائيل، واستطراداً دول الخليج العربي، بواسطة الأصول العسكرية الإرهابية والتقليدية، ستعاني هزيمة مدوية لا رجعة فيها ولا يمكن عكس مسارها.
وبحسب التقارير الإسرائيلية فقد دُمرت 23 من أصل 24 كتيبة قتالية عائدة لـ "حماس"، ولا يزال ما بقي يتعرض للهجوم، كما قتل كثير من قادة الحركة، وليس آخرهم إسماعيل هنية عندما اغتيل في ما كان يفترض أنه مجمع آمن في قلب العاصمة طهران، ومع ذلك لا يزال يحيى السنوار حراً طليقاً ولا تزال "حماس" تحتفظ برهائن مدنيين إسرائيليين، ولا يزال المعقل الضخم تحت الأرض في غزة يخضع جزئياً لسيطرة "حماس"، ولكن يبدو أن النهاية التي تلوح في الأفق تتجلى وضوحاً أكثر من أي وقت مضى.
في لبنان لا يزال "حزب الله" في طور التدمير، وقد شكل مقتل حسن نصرالله على يد إسرائيل نقطة تحول في تاريخ الشرق الأوسط، وأحدث صدمة هائلة في لبنان وخارجه.
وبالفعالية نفسها التي تتبعها القدس مع "حماس" أو حتى أكثر، تقوم بالتخلص بلا هوادة من قيادات "حزب الله" وتزيل المسؤولين الذين تسلموا للتو المناصب الشاغرة التي خلفها زملاؤهم القتلى، كما تزعم إسرائيل بأنها دمرت نصف ترسانة الصواريخ ومنصات الإطلاق التابعة للحزب، ويبدو هذا التقدير مرتفعاً، وعلى كل حال، لا يزال هناك كثير من العمل ضد احتياط مخزون "حزب الله" الذي يقدر بما يقارب 150 ألف صاروخ، وعلى رغم ذلك، ومع وفاة نصرالله وتدمير قياداته، يعاني "حزب الله" صعوبات كبيرة حتماً.
وفي المقابل يجب على دول الخليج العربي والبلدان الأخرى أن تبدأ بالتفكير في ما سيخبئه المستقبل لشعوب لبنان وغزة من دون "حزب الله" و"حماس"، وما كان فكرة لا يمكن تصورها أو تخيلها لعقود، أصبحت اليوم قاب قوسين أو أدنى، وطالما كان "حزب الله"، أكبر جماعة إرهابية في العالم، يسيطر على لبنان وحكومته، فلم يكن هناك إمكان لتحقيق الحرية السياسية والاستقرار، ونظراً إلى احتمال القضاء على "حزب الله" كقوة سياسية وعسكرية فقد أصبح إمكان نشوء مجتمع خال من الترهيب والسيطرة من جانب إيران أمراً مطلوباً بصورة عاجلة وفورية، فلبنان من دون "حزب الله" يمكنه وينبغي له أن يصبح مكاناً مختلفاً تماماً.
أما غزة، وعلى رغم مساحتها الأصغر، فوضعها أكثر تعقيداً، ويُعد الفلسطينيون الشعب اللاجئ الرئيس الوحيد منذ الحرب العالمية الثانية الذي لم يستفد من المبدأ الإنساني الأساس المتمثل في العودة لبلده الأصلي أو إعادة التوطين، وللأسف يُعتبر الفلسطينيون الاستثناء وليس القاعدة.
وفي هذا الإطار يحتاج المجتمع الدولي إلى مواجهة واقع أن غزة ليست ولن تصبح أبداً كياناً اقتصادياً قابلاً للحياة حتى لو ضُمت في أحد الأيام التي لا تزال بعيدة كدولة مع جُزر إلى الضفة الغربية، والسيناريو الأفضل سيكون أنه بمجرد أن تصبح "حماس" كومة رماد من التاريخ، فعلى المجتمع الدولي أن يعامل سكان غزة بطريقة أكثر إنسانية بدلاً من مجرد اعتبارهم دروعاً لأسيادهم الإرهابيين، فلا معنى لإعادة بناء غزة كمخيم للاجئين، وانطلاقاً من هنا سيتمثل المستقبل الأكثر إنسانية لسكان غزة الأبرياء في إعادة توطينهم في اقتصادات فعالة، حيث ينعم أطفالهم بفرصة الحصول على مستقبل طبيعي.
وعلى رغم أن غزة ولبنان يملكان ما يتطلعان إليه في المستقبل، فللأسف أن الأمر نفسه لا ينطبق على اليمن وسوريا والعراق، فالمجموعات الحوثية اليمنية الإرهابية والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في سوريا والعراق لم تُمس بصورة كبيرة بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ويجب أن يتغير هذا الأمر.
ومع أن الحوثيين أطلقوا صواريخ ومسيرات ضد إسرائيل التي ردت، فقد تمثل الإسهام الرئيس للحوثيين ضمن "حلقة النار" الإيرانية في إغلاق الممر البحري بين قناة السويس والبحر الأحمر بصورة فعالة، وألحق الحصار أضراراً كبيرة بمصر من خلال خسارة رسوم عبور قناة السويس، كما أضر بالعالم الأوسع من خلال زيادة كلف الشحن بصورة كبيرة، وشكل ذلك انتهاكاً صارخاً لمبدأ حرية البحار، وستكون القوى البحرية الكبرى مجبرة تماماً على تصحيحه باستخدام القوة، سواء بموافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أو من دونها.
وبالنسبة إلى الولايات المتحدة فقد شكلت حرية البحار عنصراً أساساً للأمن القومي حتى قبل أن تصبح المستعمرات الـ 13 مستقلة، فخلال القرنين الماضيين قادت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة جهوداً دولية للدفاع عن حرية البحار، وعليهما فعلُ ذلك اليوم أيضاً من خلال القضاء على الاعتداءات الحوثية المستمرة لتقويض الإبحار والشحن.
وانطلاقاً من هذا تتمثل الخطوة الأولى في قطع إمدادات إيران من الصواريخ والطائرات من دون طيار (المسيرات)، فضلاً عن تدمير المخزونات الاحتياطية الحوثية الحالية، وفي هذا الصدد كانت معارضة واشنطن الجهود السابقة التي بذلتها السعودية والإمارات العربية المتحدة لهزيمة الإرهابيين مضللة، ويجب عكسها لأنه من شأن تدمير القدرات العسكرية الحوثية أن يمنح اليمن الفرص نفسها المتاحة اليوم للبنان وغزة، كما يجب متابعة هذا المسار على وجه السرعة.
أما في العراق وسوريا ومع تراجع قوة إيران، ومن المحتمل أن تتلاشى بصورة دراماتيكية أكثر بعد الرد الإسرائيلي المرتقب، فينبغي أن يشكل التحرك ضد الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران أولوية قصوى، وفي ظل هذه الظروف يتعين على بغداد أن تفكر ملياً قبل المطالبة بإخراج القوات الأميركية القليلة الباقية في العراق وسوريا.
وختاماً، وبالنسبة إلى إيران، فإن فقدانها وكلاءها الإرهابيين بعد أن استثمرت مليارات الدولارات على مر عقود لبناء البنية التحتية الإرهابية سيشكل انقلاباً دراماتيكياً في الحظوظ، وفي حال قُضي على البرنامج النووي بالطريقة نفسها فإن التهديد الذي تطرحه إيران من خلال سعيها إلى تحقيق الهيمنة في الشرق الأوسط وداخل العالم الإسلامي سيصبح مستحيلاً خلال المستقبل المنظور، وفي ظل هذه الظروف قد يصبح الشعب الإيراني قادراً في نهاية المطاف على إسقاط آيات الله وإنشاء حكومة تمثيلية، وإذا كان من السابق لأوانه التأكد من حصول نتيجة كهذه، فإن الوقت ليس باكراً أبداً لنأمل بحصولها.