Image

إشعاعات اليورانيوم من اكتشاف بالصدفة إلى قوة تتسابق الدول على امتلاكها

قبل اليورانيوم كانت البحوث حول الطاقة النووية في بداياتها وبلا أفق معين، ولم يكن العلماء يتخيلون حتى إمكان الحصول على النتائج التي حصلوا عليها، وما زالت أبحاث الذرة وعلومها تلقى عناية شديدة حتى اليوم من الدول المتقدمة والدول الفقيرة التي تسعى إلى امتلاك السلاح النووي لتعويض الضعف والتهميش والفقر.

في القرن الـ19 كانت الأبحاث الجارية تتناول مجالي الكهرباء والمغناطيسيات، واشتهر فيها علماء مثل مايكل فاراداي وجيمس ماكسويل، إلا أن الطاقة النووية نفسها لم تكن تحولت إلى مفهوم علمي بعد، وحتى اليورانيوم لم يكن عرف كمادة مستقلة موجودة في الطبيعة حينها.

اليورانيوم صدفة إشعاعية

جرى اكتشاف اليورانيوم ودراسة خصائصه من العلماء عام 1789، إلا أن إدراك النشاط الإشعاعي الذي تطلقه ذرات اليورانيوم جاء بعد قرن من الزمن. كان ذلك في عام 1896 حين اكتشف العالم الفيزيائي هنري بيكريل أن اليورانيوم يصدر إشعاعات كثيفة، وكان ذلك أول دراية للعلم الحديث بما يسمى النشاط الإشعاعي، وحتى ذلك الحين لم يكن يفكر أحد فيه كمصدر محتمل لإنتاج الطاقة.

صار اليورانيوم بعد ما تسببت به قنبلتا هيروشيما وناكازاغي النوويتان من دمار هائل، معدناً مهماً جداً في كل أنحاء العالم، فبسببه انطلق سباق التسلح النووي بين الدول الكبرى، وبدأ النزاع على مناجم اليورانيوم القليلة، ثم أنشئت مؤسسات دولية ووضعت القوانين التي تحكم إنتاج اليورانيوم وتحدد طرق وكميات تخصيبه ليصبح "يورانيوم منضباً" يصلح للاستخدامات التسليحية والصناعية. وراحت المنظمات العالمية المعنية بالطاقة الذرية تراقب تنضيب اليورانيوم في دول العالم وتوافق على طلبات إنشاء مصانع لتوليد الطاقة النووية للاستخدامات السلمية كالوكالة الدولية للطاقة الذرية وغيرها من منظمات غير حكومية. ونشطت أجهزة الشرطة السرية في تعقب حمولات اليورانيوم المنقولة من مكان إلى آخر، ونشأت السوق السوداء والعصابات المتاجرة باليورانيوم، وارتفع سعره بشدة، وصار مادة سرية ومطلوبة تتسابق الدول للحصول عليها سواء تحت عيون القانون الدولي أو بالسر عن رقابته. وأقيمت الأيام والمناسبات الأممية لنزع السلاح النووي أو لتذكر كارثة تشيرنوبيل أو للمطالبة بوقف التجارب النووية، فكان لليورانيوم فتحاً في تطوير علوم الطاقة النووية منذ بداياتها وفتوحات في الاتفاقات الإنسانية وفي خلق عمليات الضغط الاجتماعي والسياسي على القطاع العسكري، الذي لم يكف عن محاولات تطوير أسلحة نووية أكثر قوة بكثير من تلك التي استخدمت بوجه اليابان في الحرب العالمية الثانية.

لماذا كل هذا الاهتمام؟

برز اليورانيوم بسبب أهمية المجالات التي يستخدم فيها، وتدور حول الطاقة النووية والصناعات التكنولوجية وحول فائدته في تحقيق الأمن العالمي عبر توازن الردع الذي يسببه امتلاك دولتين عدوتين للسلاح النووي، مما يحقق الأمن النووي تحت تهديد السلاح نفسه.

يدخل الاستخدام الأساس لليورانيوم في توليد الطاقة النووية، إذ تؤدي عملية الانشطار النووي في المفاعلات النووية إلى إنتاج الكهرباء بعد معالجة نواة اليورانيوم بطريقة تنتج منها كميات كبيرة من الطاقة. النظير الثاني لمعدن اليورانيوم يحمل اسم "اليورانيوم-235"، وهو النظير الأكثر استخداماً في المفاعلات النووية نظراً إلى قدرته العالية على الانشطار وسهولة تحرير وجمع طاقة هائلة منه، وقد تكون هذه المفاعلات لإنتاج الطاقة النووية السلمية، أو الطاقة النووية الحربية والعسكرية. كما يمكن استخدام اليورانيوم المنضب الذي يحتوي على نسبة منخفضة من اليورانيوم-235، في بعض الصناعات العسكرية مثل القذائف الخارقة للدروع.

وبما أن الطاقة النووية تعتبر مصدراً نظيفاً للطاقة ولا تنبعث منها غازات الدفيئة كالتي تنبعث من محطات الوقود الأحفوري، فإن العداء لليورانيوم انقلب في أحيان كثيرة إلى مهادنة بسبب دوره المهم في الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ. وتستخدم بعض أنواع اليورانيوم المشعة في المجال الطبي مثل العلاج الإشعاعي لأمراض مستعصية كالخلايا السرطانية، وفي مجال الصناعات الطبية مثل التصوير الإشعاعي.

كيفية تقدير سعر اليورانيوم

جعلت المجالات والصناعات المهمة التي تحتاج إلى اليورانيوم منه مادة طبيعية مطلوبة وغالية الثمن، لكن كيف يحدد سعر اليورانيوم في السوق وكيف يمكن شراؤه؟

لا يسمح بشراء اليورانيوم إلا للحكومات الشرعية والشركات المرخصة التي تعمل في مجالات الطاقة النووية السلمية أو البحث العلمي أو في الأغراض السلمية والطبية، أما نحن الأفراد العاديون فلا يمكننا شراء اليورانيوم من السوق حين نريد ونطلب.

غالب القوانين الدولية والوطنية تحظر على الأفراد امتلاك أو التداول أو استخدام والتجارة بمواد مثل اليورانيوم من دون تصاريح قانونية رسمية صادرة عن سلطات شرعية مختصة، وكذلك يقع على الشركات والحكومات الحصول على تصاريح خاصة من السلطات الوطنية ومن الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

يتداول اليورانيوم في السوق عادة على شكل "أكسيد اليورانيوم المركز U3O8، وهو نوع اليورانيوم الخام الذي يتداول في الأسواق قبل التخصيب الذي يجعله يورانيوم منضباً، مما يرفع سعره بشكل كبير عن سعره الأصلي، بسبب الطاقة والتقنية المتطورة والنادرة والجهد الكبير الذي تحتاج إليه عملية التخصيب.

تتحكم آلية العرض والطلب في السوق بسعر اليورانيوم، فعند ارتفاع الطلب العالمي على الطاقة النووية يرتفع سعره، وكذلك في حال تزايد المخاوف في شأن أمن الإمداد العالمي باليورانيوم. ويمكن لسعره أن ينخفض كما حصل عند اعتماد معظم الدول الأوروبية إنتاج الطاقة النظيفة من الموارد الطبيعية كالماء والهواء والشمس بديلاً عن الطاقة النووية تحسباً من خطورة التسرب الاشعاعي القاتل عند وقوع حوادث طارئة، ويتبدل السعر هبوطاً عند وقوع كارثة ما في أحد المفاعلات النووية السلمية أو العسكرية، كما حصل بعد التسونامي الذي ضرب السواحل اليابانية وأدى إلى تدمير مفاعلات فوكوشيما عام 2014، مما أدى إلى كارثة إشعاعية وبيئية تقارب في شدتها كارثة تشيرنوبيل السوفياتية الشهيرة.

وبالطبع تتأثر أسعار اليورانيوم بانخفاض وارتفاع تكاليف الإنتاج، بما في ذلك استخراج الخام ثم التكرير ثم التخصيب. ويدخل في تحديد السعر أيضاً نوع المناجم المستخرج منها، ومدى وعورتها وصعوبة استخراجه، وبعد ذلك تدخل تكاليف النقل والتخزين في تحديد السعر النهائي.

وتدخل أسباب غير متوقعة في تحديد سعر السوق مثل التقلبات الجيوسياسية الذي قد تتسبب بها هذه المادة الاستراتيجية، ومنها النزاعات داخل البلدان المنتجة لليورانيوم أو في ما بين هذه الدول أو بينها وبين الوكالات الدولية التي تخضعها للرقابة، أو بينها وبين الوصي الإقليمي والدولي عليها الذي قد يعرضها لعقوبات دولية اقتصادية أو ضغوط سياسية عالمية تتناوب عليها الأقطاب الدولية المتحكمة والمتنافسة.

كل هذه الأسباب تؤدي إلى رفع أو خفض سعر اليورانيوم في السوق، وفي مثل هذه الأسواق المراقبة بشدة أمنياً وعسكرياً وسياسياً وقانونياً، تلعب السوق السوداء دورها في تحديد السعر أيضاً. وفي العقدين الأخيرين ونتيجة الاتفاقات المناخية العالمية للحد من الانبعاثات المضرة بالبيئة، صارت القيود البيئية المفروضة على استخراج وتكرير اليورانيوم تلعب دورها أيضاً في رفع سعره.

الآن في نهايات عام 2024 فإن سعر اليورانيوم من نوع (U3O8) بحسب تقارير الأسواق العالمية يتراوح بين 40 إلى 60 دولاراً أميركياً للرطل الواحد، أي أقل من نصف كيلوغرام.

رحلة اليورانيوم

في أواخر القرن الـ19 واصلت العالمة الفيزيائية ماري كوري وزوجها أبحاثهما حول النشاط الإشعاعي، وذلك بعد اكتشاف اليورانيوم وتصنيفه علمياً، واكتشف الزوجان العالمان عناصر جديدة غنية بالإشعاع مثل الراديوم والبولونيوم. وعلى رغم تطور فهم العلم للخصائص الإشعاعية في المواد الخام، إلا أن هذه الأبحاث لم ترتبط مباشرة بالوصول إلى مصدر الطاقة النووية داخل نواة الذرة واستخراجها واستخدامها، ولم يكن علم الطاقة النووية موجوداً في الأساس. ولهذا يعتقد ناشطون حول العالم بأن اكتشاف الطاقة النووية كان في أصل أسبابه الوصول إلى تصنيع السلاح النووي وجعله صالحاً للاستخدام، وبرأيهم إن هذه البحوث لم تكن تبحث عن مصدر جديد للطاقة النظيفة في الأصل، بل كانت النوايا عسكرية وحربية وردعية منذ الأساس. ولم يحسم الجدال إذا ما كانت الطاقة النظيفة هي الهدف من ظهور هذا العلم، أو إذا ما كان تصنيع السلاح المدمر الذي يهدد الوجود البشري برمته على كوكب الأرض، هو السبب الأول لانطلاق هذا العلم وتلقيه دعماً سخياً من الحكومات.

يقول أشهر العلماء الأميركيين من أصل ألماني والعاملين في حقل الذرة ألبرت آينشتاين، إذا ما وقعت الحرب العالمية الثالثة بواسطة السلاح النووي، فإننا سنحارب بالحجارة والعصي في الحرب العالمية الرابعة، أي أن استخدام السلاح النووي سيعيد البشر المتبقين بعد الحرب النووية إلى العصر الحجري.

في بداية القرن الـ20 عمقت الأوساط العلمية الفيزيائية والرياضية أبحاثها من أجل فهم تركيبة الذرة، ومحاولة فهم سلوك الجسيمات دون الذرية، أي الإلكترونات التي تدور حول النواة من دون توقف، قبل اكتشاف النيوترون الموجود داخل نواة الذرة عام 1932 بجهود العالم جيمس تشادويك، ومنذ ذلك الحين بدأ العلماء يفهمون البنية الذرية وتفاعلاتها في ما بينها.

خلال محاولات اكتشاف تركيبة الذرة وما تحتويه، إذ امتدت على عشرات الأعوام لم يكن حان دور اليورانيوم بعد في تصدر عالم الذرات المشعة، كان لفهم وتجريب عملية الانشطار النووي المبادرة في الاستفادة من اليورانيوم المكتشف حديثاً، الذي ثبت بسبب خواص ذراته الإشعاعية فكرة استخدام عملية الانشطار النووي للحصول على الطاقة. في عام 1938 اكتشف العالمان الألمانيان أوتو هان وفريتز شتراسمان أن نوى بعض العناصر، مثل اليورانيوم-235 يمكن أن تنشطر عندما تتعرض لجزيئات النيوترون، وينتج من هذا الانشطار كميات هائلة من الطاقة.

خلال الحرب العالمية الثانية بدأ الاهتمام بالطاقة النووية من أجل الأغراض العسكرية، فأطلقت الحكومة الأميركية مشروع "مانهاتن" السري الذي يهدف إلى تكثيف البحث في علوم الذرة لتطوير القنبلة الذرية. ثم انطلق سباق التسلح النووي بعد الحرب، وارتفع الاستثمار في بحوث الطاقة النووية وتحديداً في المجال الدفاعي العسكري.

في الأعوام التي تلت الحرب العالمية الثانية، بدأ العلماء في اكتشاف إمكان استخدام الطاقة النووية لأغراض سلمية وتوليد الطاقة الكهربائية، وتم تشغيل أول مفاعل نووي تجاري في مدينة أوبنينسك الروسية عام 1954، فظهر سباق من نوع جديد سلمي بين الدول وهو الاستفادة من إمكانات الطاقة النووية لتأمين مصدر للطاقة النظيفة لا ينضب وقليل الكلفة، ومنذ منتصف القرن الـ20 انطلق سباق بناء المفاعلات النووية لتوليد الطاقة السلمية باستخدام عملية الانشطار.

الدول المنتجة لليورانيوم

يستخرج اليورانيوم بصورة عامة من القشرة الأرضية، ويمكن العثور عليه في مختلف أنواع الصخور والرواسب، ويخصب من أجل زيادة نسبة اليورانيوم-235 الذي يستخدم في الوقود النووي عن نسبته في اليورانيوم الطبيعي.

وفقاً للتقارير الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) ووكالة الطاقة النووية (NEA) التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن التقديرات العالمية لاحتياطات اليورانيوم القابلة للاستخراج تتراوح بين 5.5 مليون إلى 6.5 مليون طن متري. وتملك بعض الدول احتياطات ضخمة من اليورانيوم مثل أستراليا التي تحتل المرتبة الأولى عالمياً في احتياطها الذي يقدر بنحو 1.7 مليون طن، أي نحو 30 في المئة من الاحتياطات العالمية. وتليها كازاخستان التي تعد من أكبر منتجي اليورانيوم في العالم، وتمتلك احتياطات تقدر بنحو 800 ألف طن. وعلى رغم أن كازاخستان في المرتبة الثانية من حيث الاحتياطات، لكنها تحتل المرتبة الأولى في الإنتاج.

وتأتي كندا في المرتبة الثالثة بنحو 500 ألف طن من الاحتياطات التي تحتوي على بعض من أنقى رواسب اليورانيوم في العالم، ثم تليها ناميبيا والنيجر وروسيا والولايات المتحدة الأميركية.