هل رئيس «الاحتياطي الفيدرالي» بارع فعلاً أم مجرد شخص محظوظ؟
يقترب التضخم في الولايات المتحدة من المستهدف، ووصل معدل البطالة إلى 4.3 %، كما أن نمو الاقتصاد يتجاوز المعدلات التاريخية. ورغم إمكانية ظهور أخبار سلبية في أي وقت، مثل تقرير الوظائف لشهر أغسطس، الذي يصدر اليوم، الجمعة، يبدو أن بنك الاحتياطي الفيدرالي، بقيادة جيروم باول، تمكن من إدارة الاقتصاد بأفضل طريقة يمكن للمرء أن يتخيلها.
على أي حال، بعد 20 عاماً من التفكير في الأسواق، نرى تأثيراً للحظ في كل مكان. ومن الإنصاف أن نتساءل عما إذا كان باول، رئيساً تاريخياً لامعاً للبنك الفيدرالي، أم أنه حالفه الحظ بحدوث أشياء جيدة.
وفي خطابه في جاكسون هول، أرجع باول التضخم عقب الوباء إلى تشوهات العرض والطلب، وعزا تراجع التضخم اللاحق إلى زوال تلك الصدمات، والسياسة النقدية التي عدلت الطلب، وثبات توقعات التضخم. وقال إن استقرار التوقعات كان مهماً بشكل خاص، وأن يقظة الاحتياطي الفيدرالي في الدورتين الحالية والماضية ساهمت في ذلك.
والسؤال هو، هل أدت السياسة النقدية إلى تهدئة سوق العمل عن طريق تقليل الطلب الكلي؟ حسناً، الطلب لم يتراجع كثيراً، ويمكن تقديم تفسير واحد لتباطؤ سوق العمل، وهو انتهاء الاضطرابات التي سببتها جائحة «كورونا».
كذلك، هل أدى الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة إلى تثبيت توقعات التضخم، عبر تعديل سلوك الأشخاص الذين يتفاوضون على الأجور، ويحددون الأسعار؟ حسناً، لقد استقرت مقاييس التوقعات في السوق ربيع عام 2021، قبل تشديد السياسة النقدية.
وهنا يأتي السؤال الأساسي: هل كان باول محظوظاً أم ماهراً؟ وقد طرحنا السؤال على أربعة اقتصاديين، وتلقينا مجموعة متنوعة من الردود المثيرة للاهتمام.
يعتقد بول أشورث من «كابيتال إيكونوميكس»، بأن السياسة النقدية ساهمت في تهدئة الطلب، لكن الظروف الأخرى، خاصة الهجرة، كانت أكثر أهمية. وقال: «أعتقد أن تراجع التضخم كان نتيجة الحد من نقص العرض، خاصة الانتعاش في المعروض من العمالة بالسوق، الناجم عن زيادة معدلات الهجرة، أكثر من كونه ضعفاً في الطلب، يمكن إرجاعه إلى تشديد السياسة النقدية».
لكن هذا لا يعني بالضرورة أن باول كان محظوظاً، فقد لعب ضعف الطلب دوراً ما، وهو ما يمكن أن ينسب الفضل فيه للاحتياطي الفيدرالي. كما أصر باول أيضاً في خطابه في جاكسون هول، على أن الزيادات «السريعة» في أسعار الفائدة، كانت مهمة أيضاً، لأنها حافظت على استقرار توقعات التضخم، لكنني لست مقتنعاً بشكل كامل بهذا التأثير المزعوم.
من جانبه، كان جيسون فورمان من جامعة هارفارد أقل تشككاً بشأن تأثير ثبات توقعات التضخم، ويشير إلى أن الطلب تباطأ في قطاعات رئيسة: «لم يكن من الممكن أن يحدث الهبوط الناعم دون التشديد الاستثنائي للسياسة النقدية، والأهم أن الاحتياطي الفيدرالي حافظ على استقرار توقعات التضخم، من خلال إظهار استعداده للتصرف بقوة حسب الحاجة. إضافة إلى ذلك، قلص الاحتياطي الفيدرالي الطلب في بعض القطاعات، خاصة في قطاع البناء، ما يضمن أنه مع تلاشي الحوافز المالية وصدمات العرض، لن يكون هناك جولة جديدة من الضغوط التضخمية».
وأكد دون ريسميلر من «إستراتيجاس» على إمكانية عودة التضخم، قائلاً: «لم نصل بعد بالتضخم إلى نسبة 2 %، ربما نحن قريبون بما فيه الكفاية (وأنا أرى أننا كذلك)، لكن هناك أبحاثاً كثيرة تشير إلى أنها المرحلة الأولى من التعديل، وأن الصعوبة في «الميل الأخير»، لذا، فإن أحد الأسباب التي تجعل الاقتصاد يبدو جيداً، هو أننا لم ننتهِ بالفعل من السباق».
وخلال السبعينيات، انحسر التضخم ثلاث مرات، مع خفوت تأثير الصدمات، لكن المشكلة كانت في أن التضخم عاد للارتفاع ثلاث مرات، وبشكل متسارع.
ويرى ريسميلر أن الفضل في عدم عودة التضخم، يرجع جزئياً إلى الاحتياطي الفيدرالي، الذي حافظ على استقرار التوقعات، من خلال زيادة معدلات الفائدة بشكل كبير، لكنه يعتقد أيضاً أن هناك جانباً من الحظ وراء الهبوط الناعم للاقتصاد، فالهجرة ساعدت في تهدئة سوق العمل، كما أن الاحتياطي الفيدرالي تمكّن من إبطاء ثم إيقاف زيادة أسعار الفائدة جزئياً، بسبب حدوث أزمة مالية صغيرة، كانت سيئة بما يكفي لإثارة القلق، لكنها لم تكن سيئة بما يكفي لإحداث ركود اقتصادي، مثل انهيار بنك «سيليكون فالي». لذلك، يرى ريسملر أن: «هذا يبدو أقرب إلى الحظ منه إلى خطة مدروسة».
ويعتقد آدم بوسين رئيس معهد بيترسون، من جانبه، أنه لو لم يرفع الاحتياطي الفيدرالي معدلات الفائدة، لأخذ التضخم وقتاً أطول للانخفاض. كذلك، فإن الفترة الطويلة من التضخم المنخفض التي سبقت الجائحة، ساعدت في تثبيت التوقعات، كما ساهمت الإجراءات الموازية للبنوك المركزية عالمياً في ذلك. والجزء المدهش المرتبط بالحظ الجيد، هو أن هذه الزيادات في معدلات الفائدة، لم تلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد.
حدث ذلك جزئياً، لأن النظام المالي وأوضاع ميزانيات الأسر والشركات، كانت قوية في عام 2019، وتحسنت إلى حد كبير خلال جائحة كوفيد 19، وهو ما لم يتوقعه أحد. وحدث هذا أيضاً جزئياً، بسبب ارتفاع معدل الفائدة الحقيقي المحايد، لأسباب متعددة خلال فترة «كورونا»، وهو ما أتوقع استمراره. بالتالي، لم تكن السياسة النقدية مشددة، كما كان يظن الاحتياطي الفيدرالي والآخرون، وكما يتضح من ظروف الائتمان المتساهلة. لذا، لم يتسبب الاحتياطي الفيدرالي بشكل مؤكد في الهبوط الناعم. ولنتذكر أن خطاب رئيس الاحتياطي الفيدرالي باول في جاكسون هول عام 2022، كان يدور حول الاستعداد لمواجهة العواقب الصعبة، وكان الجميع يتوقعون حدوث هذه العواقب إلى حد كبير (بما في ذلك أنا شخصياً).
ويعتقد بوسن، مثل الآخرين، أن زيادة المعروض من العمالة بسبب الهجرة، ساعد، لكنه أضاف صدمة إيجابية أخرى للعرض، وهي ارتفاع الإنتاجية: أي أن ما تسبب في الهبوط الناعم، كان صدمتين إيجابيتين غير متوقعتين منذ بداية عام 2022: زيادة كبيرة في الهجرة، وتوسيع قوة العمل وخفض تكاليف العمالة، وارتفاع في نمو الإنتاجية فوق اتجاه ما قبل كوفيد. ولم يتوقع أحد أياً من هذين الأمرين، ولم يكن للاحتياطي الفيدرالي أي تأثير في أي منهما على الإطلاق.
ونود الزعم بأن زيادة نمو الإنتاجية كانت بسبب إعادة توزيع العمال الأمريكيين على أصحاب عمل أفضل/أكبر/أكثر إنتاجية، عقب البطالة الجماعية بسبب وباء كوفيد في النصف الأول 2020.
بوجه عام، لم يكن من الممكن تحقيق الهبوط السلس للاقتصاد بدون الكثير من الحظ، فقد اختفت الاضطرابات الناتجة عن الجائحة، وساعد ارتفاع معدلات الهجرة في تخفيف قيود سوق العمل، كما ساعدت الزيادة غير المتوقعة في الإنتاجية أيضاً.
كما أن أزمة بنك «سيليكون فالي» البسيطة، أدت إلى تباطؤ في زيادات أسعار الفائدة في الوقت المناسب. ويعني ارتفاع معدل الفائدة المحايد، أن الأسعار لم تكن مشددة كما كانت تبدو. وفي الخلفية، أسهمت فترة طويلة من الانكماش، واهتمام البنوك المركزية قبل جائحة «كوفيد»، إلى زيادة احتمالات عدم خروج توقعات التضخم عن السيطرة.