القوة العادلة .. والقوة الغاشمة .

06:20 2024/03/23

القوة من أكثر المفاهيم الدارجة والفاعلة والمتداولة في حياة البشر ، ولم يتوقف الإنسان يوماً عن البحث على المزيد من مصادر القوة ، ليتمكن بواسطتها من الدفاع عن نفسه وفرض إرادته وهيمنته على الآخرين ، وتحقيق رغباته وإشباع نزواته وغرائزه.


وكانت القوة الجسدية هي سلاح الإنسان البدائي للبقاء على قيد الحياة ، ومع مرور الزمن تطورت أفكار الإنسان في هذا المجال بشكل متسلسل ومتواصل ، مستغلاً موارد الأرض الكثيرة لتلبية رغباته الجامحة في الحصول على المزيد من القوة ، خصوصاً بعد تكاثر البشر وظهور المجتمعات البشرية ، والتي كانت تحتاج للمزيد من القوة لحماية أفرادها والدفاع عن مواردها وأراضيها ، لتظهر الدولة بعد أن وجد الإنسان نفسه في حاجة لكيان كبير وجامع وعادل يمتلك قوة فاعلة ومنظمة ومنضبطة وعادلة ومقننة تحميه وتدافع عن حقوقه وحرياته .

ومنذ ذلك الحين وهذه القوة تتركز في يد القائمين على سلطة الدولة ، ليحدث ما لم يكن في الحسبان ، ليجد الإنسان المواطن بأن طموحاته العريضة في تلك القوة لم تكن كما يجب أن تكون ، نظراً لتحول تلك القوة في كثير من الأوقات إلى قوة غاشمة في يد سلطات دكتاتورية مستبدة ، استغلت تلك القوة لتحقيق مصالحها السياسية والشخصية وتنفيذ أطماعها السلطوية ، ولفرض المزيد من الإتاوات والضرائب والجبايات على كاهل المواطنين ، ولمصادرة المزيد من حقوقهم وحرياتهم الإنسانية ، ولممارسة المزيد من القمع والطغيان والظلم. وليكتشف الإنسان ( المواطن ) بأن القوة العادلة التي كان يحلم بها ويؤيدها ويدعم وجودها قد تحولت إلى قوة غاشمة ، وليكتشف بأن كيان الدولة هو الشر الذي لا بد منه ، فلم يجد مفراً من مواجهة قوة الدولة الغاشمة ، على أمل الحصول على حلمه المفقود ( القوة العادلة ) ، فثار وناضل وكافح وضحى كثيراً في سبيل ذلك ..

وهذه الحالة سببت الكثير من الأرق للمفكرين السياسيين في كل زمان ومكان ، وفي سبيل كبح القوة الغاشمة والحصول على القوة العادلة ، صاغوا الكثير من النظريات والأفكار ، كما أن الأديان السماوية قد جاءت بالعديد من التشريعات التي تسعى إلى ضبط القوة وكبح جماح القائمين عليها، وكان الأنبياء عليهم السلام يجسدون النموذج المثالي في استخدام القوة بشكل عادل على الأرض ، ولكن بعد رحيلهم كانت تتلاشى معالم هذه القوة. ومع مرور الزمن كانت تتبلور على أرض الواقع القوة الغاشمة بشكل أو بآخر تحت مسميات مختلفة ومتعددة ، وكانت وستظل نزعة النفس البشرية نحو التسلط والهيمنة ، هي الدافع الرئيسي لظهور القوة الغاشمة في حياة البشر ، وهناك بعض الفترات التاريخية التي كانت تظهر فيها بعض القيادات البشرية التي كانت تعمل على مواجهة القوة الغاشمة في مجتمعاتها ، وتقوم بالانتصار للقوة العادلة في دولها ومجتمعاتها ، لتنعم بالأمن والأمان والعدل والمساواة والحرية والكرامة ، وفي سبيل الحصول على القوة العادلة والضابطة والضامنة نزفت ولا تزال وستظل تنزف البشرية الكثير الكثير من الدماء والدموع والمعاناة والمآسي ..

ولكن للأسف الشديد، كان الكثير ممن يشاركون في ثورات الخلاص من القوى الغاشمة عبر التاريخ ، بمجرد وصولهم إلى السلطة والتحكم بالقوة يقعون ضحايا نزعة التسلط والهيمنة ، ليتحولوا بدورهم إلى جلادين وطغاة ومستبدين ، ويستخدمون القوة التي بأيديهم إستخداماً غاشماً ومستبداً ، لتظل البشرية في حالة من البحث المستمر والمتواصل عن القوة العادلة المفقودة في حياتهم.


وفي حقيقة الأمر لن يتمكن الإنسان من الحصول على القوة العادلة والعيش في كنفها وتحت ظلالها ، إلا إذا تمكن من ضبطها بالقوانين والتشريعات الصارمة والملزمة والعادلة ، القوانين القائمة على المساواة والتي تمتلك قوة النفاذ والتطبيق على الجميع دون استثناء ، القوانين التي تحدد مهام وصلاحيات القائمين على القوة بشكل واضح وصريح ، القوانين التي تجعل قوة الدولة في خدمة الشعب ، القوانين التي تمنع من احتكار السلطة في يد الحاكم الفرد بل تضعها في يد مجالس شعبية منتخبة ، وفي يد خبرات وكفاءات سياسية وعسكرية وقانونية وبحثية واستراتيجية حكيمة ومتعلمة ومدربة ، تعمل على استخدامها بما يعود بالفائدة على الوطن والمواطن ، لينعم كل أفراد المجتمع بخيرات وإيجابيات القوة العادلة ، التي يحلمون بها ويناضلون من أجلها ويضحون في سبيلها .