مأساة مدينة رداع .. انتكاسة أخلاقية وحضارية وإنسانية
الشعب اليمني شعب عريق وحضاري تحكمه منذ القدم الكثير من الأعراف والعادات والتقاليد الإيجابية والحضارية خصوصاً في مجال العلاقات السياسية والاجتماعية ، فالقبائل اليمنية العربية لها أسلافها واخلاقياتها التي تنحاز دائماً للايجابية ، وتبتعد كثيرا عن السلبية والأعمال الاجرامية والوحشية
وأنا أراجع تاريخ اليمن والجزيرة العربية ما قبل ظهور الاسلام وما بعد ظهوره ، وجدت خلال ذلك التاريخ الطويل بأن للمساكن والمنازل حرمة كبيرة جدا ، ولن أبالغ إذا قلت بأنها كانت تحظى بنوع من القدسية في الأعراف والأسلاف والعادات والتقاليد اليمنية ، وذلك الأمر ليس محصورًا فقط على القبائل اليمنية بل يشمل كل القبائل العربية سواء في الجاهلية أو بعد ظهور الاسلام . فهذه قبيلة قريش وهي تحاصر وتطوق منزل الرسول عليه الصلاة والسلام ، لم تنتهك حرمة المنزل ولم تعتدِ عليه ، رغم أن باستطاعتهم القيام بذلك للقضاء على شخص كان يمثل بالنسبة لهم العدو والخطر الأكبر الذي يهدد كيانهم ودينهم ومصالحهم ، لكن الاعراف والاسلاف منعتهم من القيام بذلك ، ولا يزال صدى كلمات أبا الحكم والملقب بأبو جهل ألد أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام ، يتردد في الأسماع وفي كتب التاريخ وهو يردع أصحاب فكرة الهجوم على منزل الرسول وقتله بداخله ، ويقول لهم:"تريدون أن تقول العرب بأن قريش انتهكت حرمة البيوت وقتلت محمداً داخل بيته؟".
هذه الأحداث في عصر الجاهلية قبل ظهور وانتشار الاسلام ، الدين العظيم الذي عزز مكانة وحرمات البيوت والمساكن ، وأفرد لها مساحات واسعة في تشريعاته وأحكامه ، وذكرها الله تعالى في الوحي الإلهي ( القرآن الكريم ) بالتفصيل ، قال تعالى (( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون )) ففي هذه الآية الكريمة جعل الله تعالى الالتزام بحرمة بيوت الآخرين من علامات التقوى ، وقال تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون # فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم )) ، وهذه الآيات الكريمة توجب على المؤمنين التقيد بحرمات البيوت في كل أوقاتهم وظروفهم وأحوالهم ، وفي ذلك تأكيد على الحرمة العظيمة للبيوت والمساكن في الشرع الإسلامي وعند القبائل العربية سواء في الجاهلية أو بعد ظهور الاسلام ..
والشاهد من ذلك، أن ما حدث في مدينة رداع من جريمة تفجير مساكن المواطنين فوق رؤوس ساكنيها ، والتي سقط ضحيتها العشرات من النساء والأطفال شهداء وجرحى ، هي جريمة دخيلة على أعراف وعادات وأسلاف القبائل اليمنية والعربية ، ومخالفة للشرع الإسلامي وللنصوص والآيات القرآنية ، جريمة مستنكرة ومدانة في كل الشرائع السماوية والقوانين والأعراف الأرضية. وهكذا جرائم لا ترتكبها إلا الأنظمة الاستبدادية والعنصرية والاستعمارية ، وفي مقدمتها النظام الصهيوني وإن كان هذا النظام لا يقوم بالتفجير إلا بعد أن يتأكد من إخلائها من ساكنيها.
عمومًا، يجب الوقوف كثيرًا عند هذه الجريمة المروّعة الدخيلة على مجتمعنا اليمني ، ويجب رفضها رفضا قاطعًا تحت أي مبرر كان ، فاللبيوت والمساكن وساكنيها حرمات يجب احترامها والتقيد بها في كل الظروف والأحوال ..
ويجب أن تكون هذه الجريمة البشعة آخر الجرائم والانتهاكات في حق بيوت ومنازل أبناء الشعب اليمني ، فما ذنب البيوت حتى يتم تفجيرها بذلك الشكل الوحشي الاجرامي؟ ، وما ذنب الأطفال والنساء حتى يقتلوا وتهدم فوق رؤوسهم؟، وما ذنب سكان وأهالي المنازل حتى يتشردوا في الشوارع والصحاري ويحرموا من حقهم في العيش والسكن في منازلهم؟ ، حتى لو كان ملاك تلك المنازل أو أحد ساكنيها مدانين وملاحقين ، ففي ذلك تعارض واضح مع الشرع الاسلامي ، قال تعالى (( ولا تزر وازرة وزر أخرى )) .
إن ما حدث في مدينة رداع من المؤسف أن يحدث في ديار القبائل اليمنية العربية الأصيلة المسلمة ، ومن الخزي والعار أن يتكرر في بلاد الإيمان والحكمة . وعلى كل أبناء اليمن الاحرار في كل مناطق اليمن أن يقفوا ضد هذه الجريمة الشنيعة ويدينونها ويطالبوا بمحاكمة كل مرتكبيها من أصغر عنصر أمني شارك فيها إلى أكبر قائد أمني كان له يد فيها ، وعليهم أن يعلنوها صراحة وبكل قوة رفضهم القاطع لجرائم تفجيرات وانتهاكات حرمات بيوت ومساكن اليمنيين في كل زمان ومكان وفي كل الظروف والأحوال .
يجب أن تكون هذه الجريمة البشعة آخر جرائم تفجير وانتهاك حرمات المنازل في اليمن ، إذا كان لا يزال هناك إيمان وحكمة في هذه البلاد ، واذا كان لا يزال فيها رجال أحرار وشرفاء ومؤمنين يرفضون الظلم والطغيان والمنكر والبغي.