علي عبدالله صالح .. الانتظار الذي لا يأتي

11:58 2024/02/27

عاش الشعب اليمني في لحظة صدمة جراء رحيل الشهيد علي عبدالله صالح، لم يستوعب الخبر، لقد وقع الخبر عليهم مثل الموت، لم نستوعب الحقيقة إلا متأخراً، ومن قوة الصدمة مازال الكثير من الناس لم يستوعبوا رحيل صالح، وهؤلاء أكثر الناس من ينتمون لصالح روحا و نضالا وتاريخ، ومع هذا فالزعيم الشهيد علي عبدالله صالح لا يموت إلا واقفاً، لقد شكل الموت الذي يناسبه، واقفاً مواجهاً ومقبلاً غير مُدبر، ذلك لأن الموت لا يتمكن منه بسهوله

في صباح الرابع من ديسمبر2017. أستيقظ والدي على غير عادته، استقيظ مجذوبا مرتبكاً على صراخ من كانوا في البيت، والدتي كان صراخها يعلو في المنزل، أخي الصغير يوسف من ذوي الاحتياجات الخاصة كان مدرك لماذا تصرخ والدتي فصرخ معها وكأن جميع من في البيت في حالة ذهول، يقول والدي، ولفني تيار من الطنين وأنا أسمح صراخهم، انصت لوالدتك وهي تقول قتلوه.. قتلوه.. استشهد علي عبدالله صالح، فيقف شعر رأسي، أصوات بكاء تتسلل من الغرفة المجاورة، يغرز الحزن أسنانه السوداء في كبدي، ويتخايل لقلبي شبح موت صالح الذي لطالما رفضنا موته ولم نتقبل ذلك.
أقوم من فراشي مندفعاً نحو الغرفة، لأواجه الحقيقة، حقيقة استشهاد ضلعنا وضلع اليمن، أجهشت بالبكاء معهم، أرى أخوك جالساً وفي حالة فزع، وأمك مُستنده إلى كتفه، وجاري برفقة أبنائه في هذه الأثناء يناديني يبلغني الخبر، خرجت لمقابلته والجميع يبكون، بعد ساعة من الخبر، تتجسد الكآبة في كل المناظر وصور الحياة.

كان علي عبدالله صالح عصياً على الغياب، وهو حاضر اليوم رغم الغياب بشخصيته المتفردة، وكاريزميته النادرة، عاش قائداً شجاعاً، غير مداهناً أو منافقًا.. كان كبيراً بكبر اليمن، عزيزاً كريماً وفياً كما عهدته كل البلاد، ظهر على مسرح التاريخ كأول وآخر زعيم حكم اليمن، وأعطى شعبه حق الاعتزاز بوجوده على هذه الأرض.

جحدوك يا آخر الرؤساء ونسبوا إليك الجوع والفقر المهين، نسجوا عليك قصص وروايات فشلهم التي تعمل على تشتيت إنتباهنا، عبر الضخ الإعلامي الكثيف والمزيف والممنهج لإظهار خط إعلامي يخدم جهات وكيانات وانظمة معينة، ترى مصلحتها في قتل صورة صالح في ذهنية المواطن اليمني، كما تعمل هذه الجهات المدعومة إقليمياً على محاولة تعتيم الواقع المأساوي وربط كل خيوط الفشل بشخص صالح الذي ورغم رحيله مازال يرى فيه اليمنيون المخلص لهم. غالباً ما تجد من كانوا يتاجرون بإسم صالح بلا خجل تواروا عن الانظار أو ذهبوا للعب دور أكثر ابتذال ورخص، ومعيار الهزيمة عندهم أن لا يعيشوا معززين كما كانوا في عهد الراحل الزعيم علي عبدالله صالح.

دائماً الزعماء والرؤساء ما يختلف الناس عليهم، أما الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح فمثل الظواهر الطبيعية لحب الناس له، كان زعيما خالصا ومخلصا لثورتيّ سبتمبر وأكتوبر، ولمكتسبات الجمهورية اليمنية التي لم تشهد الرخاء والأمن والاستقرار إلا في عهده، سخر جل حياته لخدمة وطنه وأمته، فكان الملهم الأول لطموح الشباب وتطلعاتهم المستقبلية.

إن أزمة اليمن الحقيقية ومشكلتها،  تتمحور حول البحث عن القائد الزعيم، الذي ظل مكانه شاغراً رغم الزحام الذي حوله، قائد كان لديه القدرة الكافية على التأثير النافذ في شعبه وعلاقة بلاده الخارجية بمحيطه الإقليمي وهذا كان واضحاً في قدرته على حكم اليمن لـ 33 عاماً

إن الرئيس الشهيد الراحل علي عبدالله صالح كان تجسيداً لأمته في مرحلة تحول هام، وكان وسيبقى لعقود من الزمن الخالد في ذاكرة اليمنيين، وكان الأبرز وسيظل المعنى الأول في تحليل وسائل الإعلام العربية والغربية لأهم شخصية حكمت اليمن وجسدت معاني شجاعة الإنسان اليمني والعربي. كان يقود ثورة توعوية مصاحبة لأهم مراحل حياته ضد الأطماع الخارجية، وحينما كانت رياح المؤامرات تهب عليه كان الرجل يحبط كل مؤامرة في مهدها، ويقلب الطاولة على جميع خصومه المحليين ومن بينهم أطراف عربية كان هدفها إزاحة صالح من الواجهة أو تغييبه بأي شكل من الأشكال.

عاش علي عبدالله صالح فترات طويلة لتحقيق حلمه، وهو أن يأتي ذلك اليوم الذي يرى فيه اليمن قريب من مصاف الدول المتقدمة، اجتهد الرجل في حلمه وهو يستثمر بكل جهد مع شركاء اليمن من دول العالم في التنمية المستدامة والبنية التحتية والاقتصادية، لكن الإخوان أفشلوا كل هذه المساعي بخوضهم المغامرة إلى النهاية، حاملين معهم حلمًا مختلفًا عن حلم علي عبدالله صالح، أن يروا ذات يوم كل منجزات صالح تتحول إلى ركام، وقد تحقق حلمهم وصار اليمن ركام..

قصة الإخوان في اليمن شبيهة بقصص الروايات الأكثر غرابة في التاريخ الحديث، حيث يتقمص البطل دوراً فوق قدرته على الفعل فيتحول في منتصف الرواية إلى بطل مأساوي، ثم ما يلبث في آخر النص أن يفقد علاقته مع شخصيات الرواية ويموت وحيداً بلا جنازة تشييع أو مجالس عزاء.

إن رحيل علي عبدالله صالح يعني الكثير بالنسبة لليمن، خاصة أن رحيله جاء في ظرف إقليمي ودولي متغير، فالرجل كان يتوفر داخل كل مراكز ونفوذ الدولة، كان كل البلاد والمدن، كان ذو نفوذ حديدي ناعم، وكان يطبع سلوكه تجاه الحلقة الضيقة المحيطة به بكل اقتدار.

استطاع الشهيد علي عبدالله صالح طيلة ثلاثة عقود أن يصبح رمزاً للجمهورية اليمنية، حتى أن حضوره الطاغي كان يغطي على الجميع، وقد تميز بسرعة نباهته وحدة ذكائه، إذ كان هو نفسه الجبهة، والمقاتل الأول، والمدافع  في الأمام والخلف والوسط، والمتمركز في كل مكان، بينما لم يكن الآخرون يظهرون إلا في مناسبات نادرة، مثل الاحتفالات الرسمية وغيرها، ومن ثم يختفون، وهم من يمارسون اليوم الدور الذي كُلفوا بتأديته.

كان علي عبدالله صالح صاحب همة وطنية كبيرة، والخلاف الوحيد حوله هو أنه كان يتحمل المهمة الأكبر على عاتقيه، وهو تمثيل الدور الأول للدفاع عن الوطن ومكتسباته، فقد خاض صراعاً طويلاً لتحقيق حلمه بتحقيق الوحدة اليمنية المُباركة في الـ 22 من مايوم عام 1990، لكن مشكلته الحقيقية لم تكن في تحقيق الوحده كما يكذب خصومه، بل كانت في تبعية الأحزاب المعارضة لدول إقليمية بعينها. وبالرغم مما كان يبدو على السطح من تناغم بين اليمن وتلك الدول، إلا أن تلك الدول برهنت مرات عديدة على أنها صانع فوضى اللعبة في اليمن، ويمكنها سحبها في أي وقت، وهذا ماحصل على سبيل المثال في العام 2011م حين أقترحت هذه الدول على الوسيط الأممي آنذاك جمال بن عمر خروج صالح من الحكم لإنهاء ملف وجوده على الفور، وما تلى بعده كان متوقع، وقتها أختفى الإخوان خلف الستار وبدأوا في إستكمال باقي الملفات، لكن رفض صالح للمخطط أو المقترح ومغادرة السلطة بشكل فوضوي، فرض على تلك الدول إعادة تنشيط اللعبة من جديد وبشكل أكبر.

إن علي عبدالله صالح ليس رمزاً للشجاعة والوفاء والاخلاص فقط، ولا يمكن حصره في هذه الصفات، بل هو زعيم من أهم زعماء العرب في هذا القرن، قائد سياسي عقلاني في زمن انعدمت فيه العقلانية لدى أغلب القادة العرب، وهو رجل صلب الإرادة، صادق الوطنية، قوي العزيمة. وفي تقدير اليمنيين فإن علي عبدالله صالح ليس سيئاً بالقدر الذي صوره به خصومه، لكنه كان متسامحاً جداً بالقدر الذي لا يريده أنصاره أيضاً .

بعد استشهاد الزعيم القائد علي عبدالله صالح، فقد اليمن الكثير من وزنه وثقله الإقليمي، فقد غادره الكثيرون من وجوه الصف الأول، بعد أن تبين لهم أن اليمن بعد صالح ليس سوى واجهة لمشروعين في المنطقة، وأن خيار الحرب في اليمن وراءه سياسة انتقام لتراكمات قديمة، ولذلك على مُسعري شرارة الحرب في اليمن أن يدركوا أن ما يسعون إليه سوف يتبعهم دون أن يحصلوا عليه، لكن الخيار الوحيد لديهم الآن هو الهروب إلى حيث النجاة وتفادي الغرق

وما دمنا في عهد التمنيات، فكم يتشوق المطالع لو قام راصد حصيف بتوثيق أهم مراحل ومحطات الشهيد علي عبدالله صالح، في خضم هذه الأيام الصعبة التي يمر بها اليمن، وكيف تغير حال البلد بعده وتبدل، ستكون صورة مدهشة ووثيقة صادمة لمن سيأتي بعدنا، لكنها ضرورية لصيانة الوعي وتمتين الذاكرة، في مجتمع بلا ذاكرة قد يسهل خداعه كل مرة.