طاحونة الفقر ..!!

08:13 2024/01/31

كما تطحن الرحا حبوب القمح وتحولها إلى طحين ودقيق ، تطحن الحروب والصراعات اقتصاديات الشعوب وتجعلها تنهار وتتدهور ، وتجعل أبناءها يعانون المزيد من الفقر والفاقة والعوز ، ففي أجواء الحروب والصراعات تتقلص الطبقة متوسطة الدخل لمصلحة توسع الطبقة الفقيرة المعدمة ، والطبقة المتوسطة تمثل عامل التوازن في عالم الاقتصاد ، فكلما توسعت هذه الطبقة كان دليل على تعافي الاقتصاد وقوته والعكس صحيح ، لذلك دعى الفلاسفة والمفكرون ورجال الاقتصاد عبر التاريخ إلى ضرورة العمل على توسيع الطبقة المتوسطة ، لأن ذلك يساهم بشكل كبير في إرساء دعائم الأمن والاستقرار السياسي ، فالاستقرار السياسي لأي نظام حكم عبر التاريخ يتوقف على حجم الطبقة المتوسطة الدخل ، فإذا توسعت هذه الطبقة زادت حالة الاستقرار السياسي والعكس صحيح ، فالشعوب التي ترتفع فيها نسبة الطبقة الفقيرة تظل في حالة من الاضطرابات والصراعات ، كما أن نسبة انتشار العنف والجريمة في أوساطها تزداد كل يوم ، وتزداد حالة الغليان والرفض الشعبي للسلطة الحاكمة ، ولا تتردد تلك الجماهير في اقتناص أي فرصة تسنح لها للثورة والتمرد واسقاط تلك السلطة ، والتاريخ مليئ بالكثير من تلك التجارب ..!!

لذلك ليس من مصلحة أي نظام سياسي توسع الطبقة الفقيرة بين أفراد الشعب ، وأي أفكار تؤيد سياسة إفقار الشعوب كفكرة ( جوع كلبك يتبعك ) ، لن يكتب لها النجاح على المدى المتوسط والبعيد ، كونها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعمل على قيام نظام سياسي قوي ومستقر ومزدهر ومتطور ، لأن الفقر والعوز لا ينتج إلا الجهل والتخلف والاضطرابات والعنف والتمرد والغليان والرفض ، وهذه الأمور تتعارض تماما مع التطور والتقدم الحضاري ، وبذلك فإن الأنظمة السياسية التي تنشد لنفسها ولشعوبها الريادة والقوة والعزة والإزدهار والرفاهية ، مطالبة ببذل قصارى جهدها وحشد كل امكانياتها المادية والاقتصادية لتوسيع الطبقة المتوسطة الدخل وتقليص الطبقة المتدنية الدخل ( الفقيرة ) ، المسألة هنا مسألة عقلية وعلمية ومنطقية لا جدال حولها ، وأول خطوة في هذا الاتجاه تتمثل في توفير الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي ، والمبادرة في توقيف كل بؤر الصراعات والحروب ، فمن غير الممكن نجاح أي محاولات اقتصادية لتوسيع الطبقة المتوسطة في بيئة مضطربة وغير آمنة وغير مستقرة ، وأي اصلاحات اقتصادية في هكذا بيئة سوف تبوء بالفشل الذريع ..!!

وبذلك فإن العلاقة مترابطة ووثيقة بين الاستقرار السياسي وبين التطور والازدهار الاقتصادي ، فمن غير الممكن إحداث أي تطور أو إزدهار اقتصادي في بيئة سياسية مضطربة وغير مستقرة ، والوضع أسوأ في حالة الحروب والصراعات العسكرية ، كونها تقضي على الطبقة المتوسطة وتطحنها طحناً ، خصوصاً اذا طال أمد تلك الحروب والصراعات ، فمع مرور الوقت يصبح غالبية أفراد الشعب يعانون الفقر والحاجة ، بعد أن تتسبب الحروب والصراعات في قطع أرزاقهم ومصادر دخلهم ، لذلك تسعى الانظمة السياسية في كل زمان ومكان إلى العمل على إيقاف الحروب والصراعات ، ولا تتردد في تقديم كل التنازلات الممكنة في سبيل إنقاذ نفسها واقتصادها من الانهيار والفشل وتخفيف المعاناة عن شعوبها ، والشاهد من ذلك الشعب اليمني وبعد مرور تسعة اعوام من الحروب والصراعات ، والتي تسببت في إحداث ضرر كبير في الاقتصاد الوطني ، وتسببت في تعرض شريحة واسعة من أفراد المجتمع للضرر الاقتصادي والمادي والمعنوي والنفسي ، وفي مقدمتهم شريحة الموظفين المحرومين من مرتباتهم للعام السابع على التوالي في مأساة وكارثة هي الأفظع والأكثر مأساوية عبر التاريخ ، وقد ترتب على ذلك تجريف الطبقة المتوسطة بشكل تعسفي لتتقلص من 60% إلى 20% ، ولتتوسع الطبقة الفقيرة من 20% لتصل إلى نسبة 60% ، وهذا مؤشر اقتصادي خطير ، لذلك لا سبيل ولا خيار أمام الأطراف المتصارعة سوى إيقاف طاحونة الفقر ، والانخراط في عملية سلام عاجلة لتفادي الانهيار الاقتصادي الوشيك ، الذي سيكون له نتائج كارثية ووخيمة على الجميع حكام ومحكومين ..!!