النظرية القانونية في الفكر السياسي البشري ..!!
من يبحث في الفكر السياسي البشري سوف يلاحظ الاهتمام الكبير الذي حظيت به النظرية القانونية في مؤلفات وكتابات الكثير من المفكرين السياسيين من مختلف الحضارات البشرية ، وسوف يجد بأن الكثير منهم قد سخروا أوقاتهم وجهودهم وأبحاثهم حول دعم وتعزيز وتفعيل واظهار أهمية ومكانة القوانين في حياة المجتمعات والشعوب والحضارات البشرية ، بدايةً بالدعوة إلى ضرورة وضع القوانين المكتوبة التي تضمن تحقيق العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع ، والتي تضبط تعاملات وتفاعلات الأفراد فيما بينهم وفيما بينهم وبين السلطة الحاكمة ، والتي تحمي حقوق وحريات الأفراد من التعسف السلطوي ، مرورا بتحديد الهيئات والمجالس المخولة بتشريع القوانين وتعديلها حسب ما تقتضيه المصلحة العامة ، وصولاً إلى منح السلطة القضائية والمحاكم القوة التي تخولها لإنفاذ القوانين بالقوة على الأفراد والسلطات على حد سواء ، وكان القائد البابلي حمورابي أول من وضع القوانين المكتوبة ، حيث كانت القوانين قبل ذلك مجرد قواعد وأحكام عرفية غير مكتوبة ..!!
وتعتبر مدونة حمورابي هي البداية الأولى لظهور النظرية القانونية في الفكر السياسي البشري ، وقد تطورت هذه النظرية فيما بعد على يد المفكرين السياسيين الرومان والصينيون ، وكان للديانات السماوية دور كبير في بروز النظرية القانونية نظراً للكم الكبير من التشريعات والأحكام التي جاءت بها والتي هي بمثابة قوانين تضبط علاقات البشر فيما بينهم ، وفيما بينهم وبين خالق الكون ، وفيما بينهم وبين السلطات الحاكمة ، ولا يستطيع أحد أن ينكر الدور الكبير للنظرية القانونية في تنظيم وضبط حياة المجتمعات البشرية ، وفي مسيرة تقدم وتطور الحضارة البشرية ، فالنظرية القانونية كان لها دور كبير في انتقال حياة البشر من الفوضوية والعشوائية والمزاجية إلى حياة النظام والضبط والربط والحساب والعقاب ، وذلك الانتقال لم يحدث بين عشية وضحاها بل بالتدريج خلال مراحل تاريخية متتالية ، كضرورة فرضتها عليهم الحاجة إلى العيش في نطاق مجتمع مدني ، يقوم على التعاون وتبادل الخبرات والمنافع والخدمات بين أفراده ..!!
ورغم الايجابيات الكثيرة للنظرية القانونية إلا أن البعض ينتقدها بأن واضعي القوانين ينحازون عادةً لمصالحهم أثناء صياغتهم لتلك القوانين ، وقد يكون هذا الانتقاد مقبول فيما يتعلق بالقوانين الوضعية البشرية ، وبالذات لدى السلطات السياسية الاستبدادية والوراثية ، كونها تجعل من القوانين أدوات لتنفيذ سياساتها وتبرير استبدادها وطغيانها ضد الضعفاء والمساكين ، لكنه غير مقبول فيما يتعلق بالتشريعات والأحكام الواردة في الديانات السماوية ، كونها تنظر إلى البشر بمنظار العدل والمساواة وغير متحيزة لأي جهة أو طرف كان ، وبشكل عام فإن القوانين تفقد قوتها ومصداقيتها وشفافيتها وقيمتها واحترامها ، عندما تنحاز لمصلحة جهة أو طرف أو فئة على حساب بقية أفراد الشعب ، فقوة القوانين تكمن في حياديتها وموضوعيتها وعدالتها وشموليتها وعموميتها ، وتحقيقها لمبدأ المساواة بين الجميع ، ولم يتوقف الانسان المتمرد في كل زمان ومكان من ابتكار كل الوسائل التي تمكنه من الاحتيال على القوانين ، عن طريق استغلال الثغرات الموجودة في بعضها ، أو عن طريق التخفي خلال انتهاكها وتجاوزها ، ورغم كل ذلك تظل النظرية القانونية البشرية والتشريعات السماوية ، هي أفضل وسيلة لضبط وتنظيم حياة البشر ، وتأسيس مجتمعات بشرية مدنية ومتحضرة ، ولولا القوانين والتشريعات الإلهية لكانت حياة البشر عبارة عن غابة موحشة البقاء فيها للأقوى ، والغاية فيها تبرر الوسيلة ، واحترام القوانين والالتزام بها هو سلوك راقي ومدني وحضاري سواء على المستوى الفردي أو الجمعي أو السلطوي والعكس صحيح ..!!