التسامح الإنساني .. والتقدم الحضاري ..!!
من يبحث بعمق في الرسالات السماوية ، وفي الفكر البشري الإيجابي عبر التاريخ البشري ، ومنذ أن اختار الله تعالى الإنسان خليفةً له على هذه الأرض ، سوف يدرك على الفور بأن معظم التشريعات والأحكام الواردة فيها جميعاً ، تسعى إلى تقويم وتهذيب السلوك الإنساني والدفع به نحو الإيجابية ونحو الفضيلة ، لأن السلوك الإنساني إذا ما تُرك بدون تقويم وتهذيب وإرشاد ، لا يعدو أن يكون سلوكاً متوحشاً وبربرياً ، فالسلوك الإيجابي له ارتباط وثيق بالحضارة والتحضر والعمران ، والتي تأتي ضمن مهام خِلافة الإنسان على هذه الأرض ، كون نجاح مهمته تلك مرتبط ارتباط مباشر بسلوكه وأخلاقه ، فكلما كان أكثر انتظاماً وأخلاقاً وسلوكاً وتهذيباً ، كلما كان أكثر قدرة على القيام بمهمة الخلافة ، وكلما كان أكثر كفاءة وقدرة على عمران الأرض وتشييد الحضارات العظيمة فيها ، والعكس صحيح ..!!
وكل القيم السلوكية والأخلاقية والتهذيبية ، التي تدعوا إليها كل الرسالات السماوية ، وكل الأفكار البشرية الإيجابية ، الهدف منها السمو بالإنسان عالياً ، وغاية ذلك السمو وقمته هو التسامح ، فالتسامح هو عنوان الحضارة والتحضر ، ومن أدرك التسامح في كل سلوكياته ومعاملاته ، فقد ادرك الغاية من تشريعات وأحكام الرسالات السماوية ، وادرك الغاية من الأفكار البشرية الإيجابية ، ومن فقد التسامح واطلق العنان لغرائز نفسه الإنتقامية ، فقد ابتعد كثيراً عن تشريعات وأحكام الرسالات السماوية ، وقد وقع ضحية للأفكار البشرية العدوانية والسلبية ، التي تشجع على القتل والعنف والكراهية ، ليجد الإنسان نفسه وقد فقد صفات التحضر والحضارة والتمدن ، وقد اكتسب صفات التوحش والعنف ، وتحول إلى آداة تنشر الخراب والدمار والفوضى ..!!
والنفس البشرية السوية والمتوازنة عادةً ما تسلك طريق الإيجابية والفضيلة ، وعادةً ما تتعلق بالأفكار والدعوات الإيجابية ، وصولاً إلى التسامح مع الآخرين ، والقبول بهم وإحترام تعددهم وتنوعهم ، وهو غاية السمو النفسي والسلوكي والأخلاقي ، وهو الإدراك الحقيقي لماهية الحياة ، القائمة على التعدد والتنوع كسُنة من سنن الله تعالى في هذا الكون ، فكل شيء فيه متعدد ومتنوع ، بينما النفس البشرية غير السوية عادةً ما تنفر من طريق الإيجابية والفضيلة ، وتنجذب نحو طريق السلبية والرذيلة والعدوانية ، وعادةً ما تتجاوب مع الأفكار والدعوات السلبية ، وصولاً إلى العدوانية ضد الآخرين ، وعدم القبول بهم ، وعدم الإعتراف بالتعدد والتنوع ، والسعي إلى فرض إرادتها وأفكارها على الآخرين بالقوة والعنف ، ومن كل ما سبق يمكننا أن نستنتج بأن هناك علاقة وثيقة بين الحضارة والمدنية وبين التسامح الإنساني ِِ!!
وكلما سادت ثقافة التسامح في المجتمع كلما كان أكثر استعداداً للولوج إلى عالم التحضر والتمدن ، والعكس صحيح ، ومن يلاحظ الشعوب المتحضرة والمتمدنة في كل زمان ومكان ، فإنه سوف يشاهد بأن ثقافة تلك الشعوب تشتمل على مساحات واسعة من التسامح في كل مجالات الحياة ، تسامح ديني ، وتسامح اجتماعي وثقافي ، وقبول بالآخر ، واحترام للتعدد والتنوع ، ومن يلاحظ الشعوب غير المتحضرة ، فٱنه سوف يشاهد بأن ثقافتها تشتمل على مساحات ضيقة في مجال التسامح ، فلا تسامح ديني ولا فكري ولا اجتماعي ، ولا قبول بالآخر ، ولا إحترام للتعدد والتنوع ، كل ذلك يقودنا إلى حقيقة مهمة جداً ، مفادها بأن التسامح الإنساني هو من أهم أهداف وغايات الرسالات السماوية والأفكار البشرية الإيجابية ، وأن التسامح الإنساني سلوك مدني وحضاري ، وهو غاية السمو السلوكي والأخلاقي ، وهو نتاج نفسية إنسانية سوية ومعتدلة ومتوازنة ، ولا يمكن لمجتمع ينعدم فيه التسامح الإنساني ، ويسود فيه التطرف والتشدد والقسوة والعنف والكراهية ، أن يكون مجتمعاً حضارياً ومدنياً ، لأنه فقد واحد من أهم ركائز ومقومات التحضر والحضارة والتمدن ..!!