طوفان الأقصى وإسقاط الخرافة الأمريكية !

09:48 2023/12/12

ذكرتُ في مقالة سابقة لي بعنوان "التداعي الاستعماري والإنبعاث الفلسطيني"، أن طوفان الأقصى قد أسقط عددا كبيرًا من الأساطير والخرافات كأسطورة المقاومة، والممانعة،
وأعاد كثيرًا من الأمور لمسمياتها الصحيحة فأكد كذب مزاعم إيران وذراعها في لبنان بدعم المقاومة الفلسطينية بل جعلتنا نتأكد من خلاصة المشروع الإيراني هو في طموحها الكبير القائم على ضرورة أن تصير القيادة الموجهة لإسلام سياسي مقاتل مناوئ لدول المنطقة، وتحديدًا للنزعة التقليدية للمملكة العربية السعودية.


وقلتُ: "إن طوفان الـ 7 من تشرين أظهر اللاقيمة لوجود منظمات الأمم المتحدة، والجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلام، وعرى شعارات مبادئ حقوق الإنسان، وديمقراطية الغرب التي تفتقر إلى التعريف الحقيقي للإنسان حيث قيمة المواطن الإسرائيلي أغلى من قيمة أي مواطن عربي، وأما المواطن الفلسطيني فليست له أي قيمة أمام أي فرد اسرائيلي".
نعم، كثيرة هي الأمور التي أسقط طوفان الأقصى صورها ومعانيها وشعاراتها كخرافة الاستخبارات الإسرائيلية "الموساد" التي لا يغيب عنها شيئًا، أو خرافة الجيش الذي لا يمكن مسه بأذى.
غير أني في هذا المقال سأناقش _ علاوة على ما ذكرته اعلاه مما ورد بشكل مفصل في مقالتي التي بينت عنوانها في السطور السابقة _ السبب الجوهري للرعب الذي خلفه طوفان الأقصى لدى الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها المدللة إسرائيل.
*
أجزم أن السبب الجوهري الذي أصاب بالذهول مُنظري السياسة الأميريكية حاملي مشروع السيطرة والهيمنة القطبية الواحدة على العالم، وألقى في صدورهم الرعب هو إسقاط وتعرية مشاريع خطيرة استطاعت الحكومات الأمريكية بها تزييف ذاكرة شعبها وكثير من شعوب العالم، وأعطت لنفسها ذرائعًا وأسبابًا لشن حروبا هنا وهناك بحجة أنها لصالح شعبها.
لقد أسقط طوفان الاقصى مشروع مكافحة الإرهاب إلى الحد الذي دفع كثيرًا من المنخدعين بمعنى الإرهاب كظاهرة توصف بها جماعات معينة، إلى القيام بمراجعات فكرية ومقاربات استنتاجية في ضوء معطيات الأحداث اليومية التي تنقلها في كل ثانية وسائط التواصل الرقمية، ووسائل الإعلام المختلفة وأخرها جرائم الإبادة الجماعية في غزة بفلسطين خاصة مشاهد ذبح وقتل الاطفال الذين تجاوز عددهم الست آلاف طفل خلال اربعين يوماً، ناهيك عن النساء والشيوخ والشباب الذين سقطوا ضحايا بين قتلى وجرحى.


مشاهد مجانية جعلت كل عقلية متزنة تعيد النظر في مسألة من هو الإرهابي الحقيقي؟
وإعادة النظر حتى في مصطلح الإرهاب، والتمييز بين الإرهاب والعنف المشروع.
يؤكد طرحي هذا ما ذهب إليه الكاتب الاسباني إينياسيو رامونيه في كتابه "حروب القرن الحادي والعشرين مخاوف وأخطار جديدة"  حيث قال : "يعتبر مصطلح أو تعبير الإرهاب تعبيرًا غير دقيق، ويجري استخدامه منذ قرنين للوصف بلا تمييز، كل أولئك يلجاؤون خطأ أو صوابًا إلى العنف في سبيل محاولة تغيير نظام سياسي معين، وقد أثبت التاريخ شئنا أم أبينا أن هذا العنف كان ضرورياً في حالات بعينها.
*
الكيان الصهويني والدول التي تقف خلفه بالدعم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية بمبررات واهية كالقضاء على حركة حماس باعتبارها - في نظرهم - منظمة ارهابية.
لقد أمسى أكثر من أي وقت مضى عند كل العقلاء والأحرار في شتى أصقاع العالم مثل هكذا طرح غير مصدق ومقبول، وأصبحوا يدركون أنه ليس أكثر من مبرر يستند على أكاذيب باطلة مخادعة، ولا تسنده الحقائق والمعطيات اليومية التي تؤكدها الجرائم والمجازر الإرهابية المرتكبة ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وكافة المناطق الفلسطينية.
لم يسبق أن شاهدنا وسمعنا وقرأنا بهذا القدر الكبير من الأصوات التي خرجت إلى شوارع عواصم ومدن العالم وفي مقدمتها الدول الداعمة، و الواقفة خلف الكيان الصهيوني للتضامن مع الفلسطينيين.
لأول مرة نرى ونسمع علماء، وفلاسفة ،ومفكريين، وأدباء عالميين، مثقفين، وممثلين ومطربين وفنانين مشاهير عالمياً وناشطين سياسيين وحقوقيين، ومن مختلف الاتجاهات والجوانب الحياتية تارة بالتصريحات وتارات بالحوارات والنقاشات واللقاءات المعلنة، و المشاركة بالاحتجاجات المتضامنة مع الفلسطينيين.


جميعهم يرى ويؤكد أن ما قامت به حماس في 7 أكتوبر الماضي ليس إلا رد فعل لسلسلة طويلة من الانتهاكات الإسرائيلية للقوانين الدولية، والحقوق الفلسطينية، ونفاذ صبرها من تحقق أي استجابة إسرائيلية لتنفيذ القرارات الدولية، وإيقاف التوسع في بناء المستوطنات على حساب مالكيها الفلسطينيين.
لأول مرة تتفاجأ السياسة الأمريكية والاوربية بهذا الطرح الذي بات يجاهر بأنه من حق الفلسطينيين المقاومة والكفاح المسلح من أجل نيل حريتهم وإقامة دولتهم، وأن ما يقوم به الكيان الصهيوني هو الإرهاب بعينه.


إن الإرهاب الصهيوني في تقديري هو أخطر أنواع الإرهاب الذي عرفته البشرية، وذلك لأنه يأتي من قبل عصابة غاصبة أصبحت بين ليلة وضحاها آخذةً شكل الدولة المكتملة الأركان، وبالتالي تمارس هذه الدولة الإرهاب الممنهج والمنظم بإقدامها على شنّ مجازر ومذابح إبادة جماعية، مستخدمة أسلحة دمار شامل ضد أناس عُزّل لا يمتلكون أي نوع من أنواع أسلحتها المدمرة التي تسوي الأحياء بالأرض دون أدنى رحمة أو شفقة.
*
ما كل هذا الخبث والبربرية؟
إنه بسبب الرعب الذي خلّفه طوفان الأقصى عند صناع السياسة الأمريكية بسبب إسقاط وتعرية الزيف الذي خدعت به الحكومات الأمريكية شعبها طيلة العقود المنصرمة خاصة مشروع محاربة الإرهاب الذي لا يزيد عن كونه مجرد خرافة أمريكية تمتلك عناصر السقوط أكثر من عناصر الديمومة التي لا تمتلكها.
إن من أهم معطيات طوفان الأقصى الذي يؤكد ما يذهب إليه كاتب المقالة في طرحه هو موقف إدارة بايدن عندما طالبت عدد من دول العالم اسرائيل بإيقاف الحرب ضد غزة فسارع بدوره داعيًا إسرائيل إلى عدم إيقاف الحرب وطالبها بمواصلة هجومها حتى لا يحسب ذلك التوقف نصرًا سياسيًا وعسكريًا لحماس.
والواقع أن هذا التبرير وإن كان ينطوي على قدر من الواقعية غير أن الحقيقة التي تتوارى خلفها ادارة بايدن هي غير ذلك المبرر السخيف تمامًا.


إن الدافع الحقيقي وراء رفض إيقاف الحرب هو أنه يتعارض كلية مع المشروع الذي تتعاقب على حمله الإدارات الأمريكية منذ أعلن عنه بوش الابن تحت شعار "حرب بلا نهاية على الإرهاب".
شعار أزعجت أسماعنا به إلى حد الضجر طبول الصدى الإعلامي التي تقود جوقتها وسائل إعلام جبارة لا نحتاج إلى براهين وادلة تؤكد احتكار اليهود لها بنسبة  80٪ من اجمالى وسائل الإعلام في الولايات المتحدة.
إن شعار الحرب المفتوحة على الإرهاب يؤكد لنا أيضاً أن الحروب هي واحدة من أدوات السياسة الخارجية للإدارات الأمريكية التي تحاول من خلالها إثبات إنفراد إمبراطوريتها على قمة العالم دون منازع أو حتى منافس من قوة أخرى، وبدون تلك الحروب تدرك يقينًا واشنطن أنها سوف تغيب عن صدارة خارطة الأحداث العالمية اليومية، لذلك وفي سبيل البقاء متربعة على قمة القطب الواحد لا يهمها أن تقيم وزنًا لأعداد الضحايا حتى إن كانوا أطفالاً أبرياءً، ونساءً، وشيوخا عُزلاً، وسجل تاريخها حافل بالتدخل في شؤون الدول وشن الحروب عليها مخلفة الضحايا كحروبها في فيتنام، وبنما، وأفغانستان، والعراق وووووالخ الخ.


وإذا ما حاولت الأمم المتحدة إدانة أي عدوان أميركي سوف يستخدم سفير البيت الأبيض حق النقض "الفيتو" كما حدث عقب غزوها العسكري لدولة بنما عام 1989م من أجل الإطاحة بالحاكم المطلق "نوريغا" والذي كان عميلًا سابقًا لـ CIA فحاول شق عصا طاعتها، فغزت بلاده لتنصيبه بديلًا عنه رجلها "جيير مو اندارا" وكانت الحجة التي أعلنتها هي أن الأول يعتبر مهرب مخدرات، واباحي، وديكتاتور، وينتهك حقوق الإنسان، ولأجل ذلك أرسلت قواتها المارينز، وطائرتها الشبح اف 117 إيه ، وبدلًا من قصف مقر قيادة نوريجا قامت بقصف حي تشوريو مخلفة ما يقارب ألألفي قتيل من المواطنين، ناهيك عن آلاف الضحايا ولم تستطع حينها الأمم المتحدة إدانتها بفضل السيد "الفيتو".
ومنذ الغزو العسكري لينما الذي زامن سقوط وانهيار الاتحاد السوفياتي صارت القوة العظمى للولايات المتحدة الأمريكية موجهة في خدمة مشروع السيطرة الامبراطورية على الكوكب.
ولكي تثبت ذلك عملت على شنّ الحرب ضد العراق عام 1990م، ولأنها لم تتمكن من إسقاط النظام العراقي بالسرعة التي كانت تتوقعها اعتكفت تخطط ما يقارب الثلاثة عشر سنة، وانتهت إدارة بوش حينذاك إلى إعداد مصفوفة اتهامات لضرب صدام حسين أهمها هي أنه :
1- لا ينفذ قرارات الامم المتحدة.
2- يمتلك أسلحة دمار شاملة.
3- يشكل خطرًا على جيرانه.
وفي ضوء هذه الاتهامات تم التصويت على القرار الدولي رقم 1441 الذي بموجبه ضربت العراق وتم احتلالها، واسقط نظام صدام حسين.
وكان مما صرح مرارًا به وتكرارًا بوش الابن وصقور البيت الابيض إلى جانب الاتهامات السابقة توقع وجود علاقة بين صدام وتنظيم القاعدة.
وبعد إحتلال العراق ثبت بما لا يدع مجالًا للمغالطة بطلان كل الاتهامات والتوقعات التي كذبها الواقع وفضحت بأساليب وطرق شتى واتضح أن هنالك هدفًا اخرًا أهم أعلن عنه، وهو كما يقول إينيا سيو رامونيه : لقد كان من ضمن الأهداف التي أعلنت عنها واشنطن لحرب وإحتلال العراق عام 2003م حماية دولة إسراييل من هجوم عراقي غير محتمل، وكذلك دفع الأوضاع في المنطقة إلى واقع أفضل تستطيع فيه الولايات المتحدة من دمج الدولة اليهودية في المنطقة انطلاقًا من أن المسألة الفلسطينية سوف تجد أسهل حل كبير في شرق أوسط جديد تسيطر واشنطن عليه عسكريًا وسياسيًا.(2)
*
من سقوط العراق، إلى ثورات الربيع العربي وما تلاها من متغيرات في سوريا واليمن ولبنان وتونس وليبيا والسودان وصولًا إلى الحرب الإسرائلية على غزة كل هذه المتغيرات لم تكن إلا خطوات ضمن المشروع الاستعماري الأمريكي الجديد للمنطقة.
غير أن الذي لم يكن صُناع ذلك المشروع يعتقدونه هو أن مشروعهم سوف يسقط ويتعرى على حقيقته كاملاً عندما يذهب منفذي المشروع إلى النقطة التي يستحيل فيها إقناع العالم أن الحالة الانعزالية المنغلقة للصهويونية تتمثل في أنها تنكر على الغير - أي الفلسطينيين- نفس الحقوق التي تطالب بها لنفسها بطمأنينة نفس مطلقة.
عند نقطة الإنكار هذه لا شك أن الوعي العالمي سوف يستيقظ من غفوته ويدرك فداحة التناقض المريب في تكوين الصهاينة ومن يقف خلفهم، وهو تناقض عراهم على حقيقتهم تعرية أوقعت الرعب والخوف في روعهم معًا، الأمر الذي يدفعنا إلى القول بثقة إن ما بعد طوفان الـ 7 من تشربن الأول عام 2023م قطعًا لن يكون على غرار ما كان عليه قبله.
*
الهامش:
1 - حروب القرن الحادي والعشرين مخاوف وأخطار جديدة - تأليف إينياسيو رامونيه - ترجمة خليل كلفت - صادر عن دار العالم الثالث بالتعاون مع المركز الفرنسي للثقافة والتعاون والترجمة - القاهرة ص 152.
2- نفس المرجع نقل بتصرف مطلق.