السلطات الحاكمة .. والتطبيق السلبي لنظرية الحكم الإسلامي .

05:09 2023/12/04

الإسلام دين ودولة ولا جدال حول ذلك ، فهو دين يحمل في طياته كل القيم السياسية الفاضلة التي تؤسس لدولة عادلة ومثالية ، ولكن تكمن المشكلة دائما في سوء التطبيق ، فالتطبيق على أرض الواقع في وادٍ ونظرية الحكم الإسلامي الرشيد في وادٍ آخر ، فأنظمة الحكم التي تقول أنها إسلامية في كل زمان ومكان ، تستغل الإسلام استغلالاً سياسياً وسلطوياً سلبياً كواجهه وشعارات ترفعها لتمارس بها الظلم والفساد والاستبداد وتغطي بها سلبياتها وتجاوزاتها وفشلها وتسلطها وطغيانها ، وصولاً إلى ظهور أنظمة حكم كهنوتية استبدادية وراثية بإسم الإسلام في مختلف الفترات التاريخية ، رغم أنه لا كهانة ولا ظلم ولا توريث ولا قداسة في الإسلام ، وبذلك فإن الخلل ليس في نظرية الحكم الإسلامي بل في التطبيق السلبي لها ، وفي سوء فهمها ، وسوء تفسيرها ، وسوء القيادة ، والخضوع لأطماع النفس وشهواتها ومصالحها وتقديمها على مصالح الدين والأمة ، لأن تطبيق هذه النظرية على الواقع يحتاج لقيادة فاضلة وصالحة ومثالية وعادلة ومسؤولة ومؤمنة ومتواضعة ورحيمة وشوروية وزاهدة ، وهذه الصفات لم تتوفر إلا في الرسول عليه الصلاة والسلام وفي خلفائه الراشدين ..

وكم هو مؤسف ومحزن أن تمارس أنظمة الحكم  المحسوبة على الإسلام الظلم والاستبداد والفساد والطغيان بإسم الإسلام ، وأن تتكلم بإسم الإسلام ، وتجعل نفسها وصية على الإسلام ، وترفع شعاراتها بإسم الإسلام ، رغم بعدها الكبير عن الإسلام في التطبيق والممارسة على أرض الواقع ، وكم هو مؤلم أن يشاهد المسلم دين الله دين الرحمة والعدل والشورى والمساواة والرحمة والإنسانية وقد تحوّل إلى سيف مسلّط يضعه الحكام فوق رقاب المواطنين ، ليقطعوا به رقاب كل من يخالفهم أو يعارضهم باسم النفاق والكفر والردة والتمرد والخيانة ، وليسلبوا بسطوته ما في أيدي الناس من أموال وحقوق عنوة باسم جبايات وإتاوات ما جاء بها من سلطان ، كل ذلك يظهر حجم المشكلة التي نتحدث عنها ، فاستغلال دين الله تعالى لتحقيق مصالح سياسية ومكاسب سلطوية أمر ليس بالسهل ولا الهين ، بل إنها كارثة الكوارث ومأساة المآسي ورأس المشكلات والمصايب كلها ، فلا هم بالذي حكموا بدين الله تعالى بالصورة الصحيحة وكما ينبغي ، ولا هم بالذي مارسوا سلطاتهم واستبدادهم وطغيانهم باسمهم ..

وما تعرض له الإسلام في هذا الجانب تعرّضت له بقية الأديان السماوية ، وليس ببعيد تلك الحقبة السوداء والمظلمة التي عاشها العالم المسيحي في العصور الوسطى ، والتي تحوّلت فيها الكنيسة إلى أداة للظلم والاستبداد والفساد والكهانة والإقطاع ، وقمع الشعوب ومحاربة العلم والتعليم ، ونصبت المشانق للمعارضين والعلماء والمفكرين ،وذلك نتيجة تحالف رجال الكنيسة ( البابوات ) مع رجال السلطة ( الأباطرة والملوك ) ، لتظهر أنظمة حكم كهنوتية جعلت من الدين وسيلة لممارسة الظلم والاستبداد والطغيان ضد رعايا الشعوب الأوربية باسم الرب ، وهو ما دفع بالمفكرين الأوربيين إلى تبني الأفكار والنظريات التحررية ، التي تقضي على التحالف السلطوي الكهنوتي بين الكهنة والسلاطين ، وكانت النظرية العلمانية هي أبرز تلك النظريات ، وتقوم على فصل الدين عن الدولة ، بمعنى حرمان القادة السياسيين من استغلال الدين لتحقيق مصالح سياسية ومكاسب سلطوية ، أو بمعنى آخر القضاء على الكهنوت السلطوي باسم الدين ، وتكللت تلك المساعي بإنطلاق الثورة الفرنسية التحررية ، وبنجاحها تمكنت الشعوب الأوربية من تحطيم قيود الكهنوت السلطوي الذي أذاقها الويل والظلم والطغيان ، لتنطلق بعد ذلك نحو الحرية والعلم والديمقراطية والمدنية ، وتحقق نجاحات كبيرة في مجال التطورات والابتكارات العلمية استفادت منها كل الحضارات البشرية ..

وبذلك، فإن المعوقات التي تواجه النظريات الدينية في كل زمان ومكان هي الاستغلال السلبي للدين ، وسوء التطبيق ، وعدم توفر القيادات المثالية والفاضلة والمؤمنة ، وليست المشكلة في الجانب النظري فهي غاية في المثالية والإنسانية والفضيلة ، ويبدو بأن النظرية العلمانية رغم سلبياتها ، تهدف إلى منع الاستغلال السلطوي للدين ، وإلى منع المتاجرة بالدين ، ووقف الاستبداد والظلم والطغيان باسم الدين ، والقضاء على الكهنوت السلطوي الذي مارس كل السلبيات في حق الشعوب باسم الدين ، والنظرية العلمانية بذلك لم تنكر الدين ولم تحاربه كما يظن البعض ، فحرمان رجال السلطة والدين من استغلال الدين واستثماره والمتاجرة به وسوء تطبيقه ليس انكاراً للدين ولا جحوداً به ، والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم في العالم الإسلامي بعد فشل الأنظمة والاحزاب والجماعات الاسلامية في تطبيق نظرية الحكم الاسلامي على أرض الواقع كما يجب ، وبعد تعاظم استغلال انظمة الحكم للاسلام بشكل سلبي ، فهل بإمكان المفكرين المسلمين الاعتكاف والبحث والدراسة لإبتكار أفكار ونظريات سياسية يمكن من خلالها حماية الدين الإسلامي من استغلال السلطات الحاكمة له بشكل سلبي ، ووضع الأليات الكفيلة بضمان التطبيق السليم والصحيح لنظرية الحكم الإسلامي على أرض الواقع؟ ، لأنه لو يتم تطبيقها بشكلها الصحيح على أرض الواقع فإننا سنكون أمام أفضل وأعظم نظرية حكم في حياة البشر ، لديها القدرة على أن تحقق لهم الصلاح والهداية والسعادة وتضمن لهم حياة كريمة يسودها العدل والمساواة والرحمة .