الانتكاسة المدنية والحضارية .. في العلاقات الدولية ..!!

08:11 2023/11/26

إن ما تشهده المجتمعات البشرية في القرن الواحد والعشرين من حروب وصراعات وتوترات واصطفافات عرقية ودينية ومذهبية وطائفية وعنصرية ، هو دليل واضح على أنها تعيش مرحلة انتكاسة مدنية وحضارية في كل مجالات الحياة ، وذلك نتيجة وصول قيادات وأحزاب وجماعات متطرفة ومتشددة إلى سدة الحكم في مختلف القارات والمناطق الجغرافية ، تحمل أفكار وايديولوجيات تشجع على الكراهية والعنف والعداوة ضد الآخرين ، وتمتلك عقليات متحجرة واستبدادية واستعمارية ، تبيح الاعتداء على الآخرين وسفك دماءهم واستباحت أموالهم وممتلكاتهم وحقوقهم وحرياتهم ، ولا تعير أي اهتمام للجوانب الانسانية والحضارية والمدنية ، كل ذلك بعد أن كانت البشرية قد خطت خطوات جادة وملموسة خلال النصف الثاني من القرن العشرين ، نحو تبني قيم المدنية والحوار والديمقراطية والشراكة السياسية والعلاقات الثنايئة الإيجابية القائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شئون الدول الأخرى ، وفتح كل مجالات التعاون والتعارف والتبادل العلمي والثقافي والتجاري بين الدول واحترام إرادة الشعوب ، وحقها في تقرير مصيرها ..!! 

رافق ذلك تطورات كبيرة في العلاقات والتفاعلات الدولية ، وقيام الأمم المتحدة عبر منظماتها الإنسانية والحقوقية والثقافية بدعم الدول النامية في الجوانب الاقتصادية والتنموية والعلمية والسياسية ، وإنهاء كل صور الاستعمار العسكري المباشر ومنح الدول استقلالها بموجب القوانين الدولية ، وكانت المجتمعات البشرية تسير بخطوات مقبولة نحو التمدن والتحضر ، وفتحت الحكومات حدودها ومطاراتها وموانئها ومدنها وجامعاتها للتبادل الدبلوماسي والاقتصادي والتجاري والعلمي والثقافي وللبعثات الدراسية في مجال التعليم العالي والتقني ، بهدف تبادل الخبرات ونقل العلوم والمعارف بصفتها جهد مشترك شاركت في تطورها كل المجتمعات البشرية خلال الفترات التاربخية السابقة ، وكان هناك حراك سياسي نشط في الدول النامية لتبني نهج المدنية والديمقراطية ، حيث ظهرت الاحزاب والفعاليات المثقفة ذات التوجه المدني والديمقراطي في كل الدول حول العالم ، رغم ممانعة بعض الدول نتيجة أنظمة حكمها الملكية والوراثية والاستبدادية ، إلا إن المرحلة كانت مرحلة مدنية وديمقراطية وحقوقية بامتياز ، ما اضطر تلك الدول إلى القبول بالديمقراطية وإنشاء مجالس برلمانية وشوروية مع احتفاظها بقياداتها الملكية على رأس الهرم السلطوي ..!! 

ولكن بدأت سياسات الدول الغربية تتغير وتتوجه نحو دعم الجماعات العرقية والمذهبية والطائفية المتطرفة والمتشددة حول العالم ، وكانت الحرب السوفيتية الافغانية بداية ذلك التوجه السياسي ، حيث تبنت تلك الدول وفي مقدمتها أمريكا دعم الجماعات والحركات الإسلامية المتشددة وتقديم كل صور الدعم لها وتجنيدها لمحاربة السوفيت في افغانستان ، ليبدأ منذ ذلك الوقت مرحلة ظهور وبروز الجماعات الدينية المتطرفة والمتشددة على حساب التآمر على الأحزاب والقوى والفعاليات المدنية والتقدمية ، ومع مرور الأيام ازدادت الأنظمة والجماعات الرجعية والمتطرفة نفوذا وقوة نتيجة الدعم المتزايد لها من القوى الغربية لأهداف وأغراض سياسية ، حتى تمكنت من السيطرة على السلطة والحكم في عديد من الدول حول العالم ، وترافق مع ذلك تفشي ظاهرة الارهاب والعنف والتطرف والتشدد والحروب والصراعات ..!! 

 كل تلك السياسات والتصرفات السلبية هي السبب في حصول الانتكاسة المدنية والحضارية التي تعيشها المجتمعات البشرية اليوم ، وهي تبتعد كل يوم أكثر وأكثر عن كل قيم ومبادئ وصور التمدن والتحضر والتعايش السلمي ، وتغرق أكثر وأكثر في مستنقع التطرف والتشدد والعنف والحروب والصراعات والتوترات العرقية والطائفية والمذهبية ، التي لا تبشر بخير للأسف الشديد ، ولن نبالغ إذا قلنا بأن البشرية تعيش اليوم واحدة من أسوأ إنتكاساتها المدنية والحضارية ، وسيكون لها عواقب وخيمة وسلبية على مستقبلها ومنجزاتها ومسيرتها الحضارية والتقدمية ، وستدفع الأثمان الباهضة لهكذا سياسات وتصرفات عشوائية ، تنذر بأن الكلمة العليا على المدى القريب والمنظور ستكون للتشدد والتطرف والاستبداد والعنف والتعصبات العرقية والطائفية والمذهبية والصدام الحضاري ، ما لم يتم تدارك ذلك عن طريق صحوة عالمية تقوم بكبح جماح السياسات والأفكار التي تشجع على تنامي وتعاظم هذه الظواهر السلبية ، وتقوم بدعم السياسات والأفكار التي تدعوا إلى إعادة إحياء القيم والمبادئ المدنية والحضارية في العلاقات الدولية ..!!