العالم العربي .. والإنكفاء نحو الماضي ..!!

12:30 2023/10/28

بدايةً ...... 
من المعلوم بأن كل شعوب العالم بدون استثناء ، تعرضت لحروب ومشاكل وصراعات وأزمات ، والحرب العالمية الأولى والثانية خير مثال على ذلك ، حيث تأثرت معظم دول العالم ، من الآثار الكارثية لتلك الحروب ، التي بلغ عدد القتلى والجرحى فيها عشرات الملايين ' ورغم كل ذلك وكمتطلب للإنطلاق نحو مستقبل أفضل ، ترفعت كل تلك الشعوب التي إنخرطت في تلك الحروب عن أحزانها ومآسيها ، ويممت وجهها نحو المستقبل ، ولم تلتفت أبداً إلى الماضي ، ولم تجلس تتذكر أحزانها بين كل فترةٍ وفترة ، وبتلك الروح الٱنسانية الإيجابية تمكنت تلك الشعوب ، من الإنطلاق نحو مستقبل أفضل ، بكل إصرار وقوة وعزيمة ، وها هي تعيش بالفعل مستقبل مزدهر بكل المقاييس ، وتنعم بالحياة الهادئة وتتمتع بكل مقومات الرفاهية والتقدم ، وتجعل من تلك الحروب والكوارث ، مجرد تاريخ وذكرى للعظة والعبرة ، وليس لتجديد الأحزان ، وجلد الذات ، وتحريك الأحقاد والضغائن ضد الآخرين ..!!

بل إنها جعلت منها ذكرى ومدرسة لتعليم أطفالها وأجيالها ، خطورة الحروب والصراعات ، وآثارها السلبية والكارثية على الحياة الإنسانية ، لتغرس في نفوسهم قيم السلام وأهمية التعايش السلمي وضرورة الإنطلاق نحو المستقبل الأفضل ، وقد نجحوا في هذا التوجة نجاحاً كبيراً ' وترتب على ذلك نتائج إيجابية جداً ، نتائج مذهلة جداً ، فها هي تلك الشعوب وعلى سبيل المثال الشعب الألماني والشعب الياباني ، اللذان هزما في الحرب العالمية الثانية ، وخرجا منها وأوطانهم ومدنهم ومنشآتهم مدمرة ، واقتصادياتهم منهاره ، وكل مقومات الحياة شبه معدومة ، انطلقوا من جديد ، ويمموا نظرهم نحو المستقبل ، تاركين الألام والأحزان خلف ظهورهم ، وبالفعل وخلال سنوات قليلة ، عادت الحياة إلى طبيعتها ، وعادت هذه الشعوب إلى طليعة الشعوب المتحضرة ، وانطلقت نحو المستقبل بكل جدارة واقتدار . وهذه وبكل حق ، هي الروح الإنسانية الإيجابية المفعمة بالتفاؤل ، التي دائما ما تنظر إلى المستقبل الأفضل ، ودائماً ما تترك الماضي ومآسيه وأحزانه وكوارثه وأخطائه وألآمه وسلبياته خلف ظهرها ..!!

لكن للأسف الشديد ....... 
هذه الروح غير موجودة في النفسية العربية ، التي لا تفتأ تنظر إلى الماضي ، لتتذكر أحزانه ومآسيه وسلبياته ، وتستحضرها وتعيش معها ، وهو ما يجعلها تنكفئ نحو الماضي ، وتعيش في الماضي ، وهذه العقبة دائماً ما تمنع النفسية العربية ، من النظر نحو آفاق المستقبل ' فإذا كان الكثير من العرب لا يزالون يستحضرون مآسي وأحزان وسلبيات ، حدثت قبل 1400 سنة على سبيل المثال ، ولا يزالون يسعون لترسيخ تلك الأحداث المأساوية في عقول الأجيال ، وهم بذلك بعلم أو بدون علم يقومون بربط عقول أجيالهم بالماضي وأحزانه ومآسيه ويكبلونها بسلبياته وأخطائه ، ويحرمونهم من التطلع نحو آفاق المستقبل المشرقة ، وحقهم في عيش حياتهم وعصرهم واللحاق بركب الحضارة الإنسانية ..!!

وهذه النفسية العربية المنكفئة نحو الماضي ، هي سبب توريث الأحقاد في نفوس الأجيال عبر العصور ، وهي سبب ترسيخ الخلافات المذهبية والطائفية بين الأخوة العرب ، وهي السبب الرئيسي لحالة التخلف والتراجع الحضاري ، الذي تعيشه الشعوب العربية . وهذه النفسية المنكفئة نحو الماضي ، والمرتبطة بصراعاته وأحزانه ، هي أداة لقتل الإبداع والإنطلاق عند الشباب العربي ، وهي الأداة المانعه لهم للنظر نحو الأمام ، والإنطلاق نحو مستقبل أفضل . وهذه النفسية المنكفئة نحو الماضي ، هي التي تُمجِّد العنف والكراهية في نفوس الأجيال ، رغم تعارض هذه السلوكيات مع الإسلام ، الذي يجعل مهمة الإنسان الأساسية في هذه الحياة ، بعد مهمة العبادة ، هي مهمة عمران الأرض وبناء الحضارات ، ولن يستطيع الإنسان تنفيذ هذه المهمة ، وهو يحمل هكذا نفسية معقدة ومنكفئة نحو الماضي ، نفسية لا تحمل في داخلها سوى الأحقاد والكراهية ' فتنفيذ المهمة تتطلب نفسية منفتحه ومتفائلة وسليمة ومتسامحة ومنطلقة نحو المستقبل ، نفسية متحررة من كل أغلال الحقد والكراهية ، نفسية متعاونه ومحبه للآخر وقابلة للتعايش مع الآخر على الأقل الآخر العربي وليس الآخر الأجنبي ..!!

لذلك كله ..... 
سيظل السلام بكل صوره سواء السلام النفسي أو السلام الاجتماعي أو السلام التاريخي أو السلام الحضاري أو السلام العقائدي ...الخ ، حلماً يراود الٱجيال العربية السابقة والحاضرة والقادمة طالما والعقليات المعقدة المنكفئة نحو الماضي هي المسيطرة والمتحكمة على القرار العربي لأنها تستغل الماضي وما حدث فيه من المآسي والسلبيات والحروب والصراعات ، لتجعل منها أداة ممانعة للنظر نحو مستقبل أفضل ، وتجعل منها أداة لزراعة الأحقاد والكراهية في نفسيات الأجيال العربية المتلاحقة ، وتجعل منها أداة لترويج بضاعتها البائرة والكاسدة ، بضاعة المذهبية والطائفية والعنف ، والقتل ، والتطرف ، والتشدد ، والكراهية للآخر ، ورفض الآخر ، وتجعل منها أداة لترسيخ قيم التخلف والتراجع في عقول الأجيال العربية المتلاحقة ' لذلك لا يستغرب أحد وهو يشاهد العرب وهم يقبعون وبكل فخر في مؤخرة الركب الحضاري للأمم ..!!

لأن العقليات المعقدة والمنكفئة ، تخاف من المستقبل ، تخاف من التطور والبناء والتقدم ، تخاف من العلم والثقافة والحضارة ، تخاف من السلام ، تخاف من التسامح ، تخاف من التعايش السلمي ، تخاف من الحوار ، تخاف من الإعتراف بالأخر ، تخاف من كل شيء جميل وإيجابي في هذه الحياة ، لأن كل ذلك يتعارض مع بيئتها الإنكفائية والسلبية ' وفي ظل استمرار هيمنة العقليات المعقدة ، والمنكفئة ، والمتعصبة على القرار العربي ، سيظل العالم العربي يعاني من إجترار الماضي بكل سلبياته ومآسية وستظل الصراعات والحروب هي الحاضرة في تفكيره ووجدانه والعنوان العريض ليومياته وتفاعلات حياته ، وستظل الأجيال العربية الحاضرة والقادمة محرومة من المشاركة الإيجابية والفاعلة في مسيرة الحضارة الإنسانية . وستظل أسيرةً لماضي مليئ بالأحقاد والكراهية والعنف والخلاف ' ماضي يجرها إجتراراً نحو الحروب والصراعات البينية المتجددة ....!!!!

وما يحدث اليوم من تخاذل عربي وإسلامي تجاه كل القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ، هو النتيجة الطبيعية لتلك السياسات السلبية التي يمارسها أصحاب العقليات المعقدة والمنكفئة نحو الماضي ، التي تجذر في نفوس الاجيال العربية ثقافة الخلافات العقائدية والسياسية والسلطوية ، وتكرس في عقولهم ثقافة الانقسامات الطائفية والمذهبية ، وهكذا أجيال منقسمة على ذاتها وعلى نفسها وعلى عقيدتها لن تكون قادرة على توحيد مواقفها تجاه قضاياها المصيرية ، هكذا اجيال هي قادرة فقط على صناعة المزيد من الانقسامات والخلافات والصراعات والعداوات البينية ، فمن يكرس ثقافة الطائفية والمذهبية والكراهية والحقد والخلاف ، ومن يصنع الإنشقاقات ويغذي الخلافات والانقسامات البينية داخل جسد الأمة ، ليس مؤهلاً ولا أهلاً لريادة الأمة وتبني مواقف قوية مدافعة عن قضاياها وحقوقها ، من يريد القيام بتلك المهمة العظيمة عليه أن يتبنى ثقافة الوحدة والتوحد ، ثقافة الترفع عن الخلافات القديمة والجديدة ، ثقافة لملمة الصفوف ، ثقافة التقارب وليس التباعد ، وعند وجود من يحمل هذه الثقافة الإيجابية ، سيكون وضع الأمة أفضل وأقدر لحل كل قضاياها ومواجهة كل التحديات التي تحيط بها ..!!