السلطات الاستبدادية .. والإرهاب الفكري .

08:54 2023/08/28

يظن البعض بأن الإرهاب محصورًا فقط في التفجيرات والأعمال الإجرامية التي تستهدف المدنيين الأبرياء ، والحقيقة أن للإرهاب العديد من الصور والأشكال منها الإرهاب الفكري والسياسي والإجتماعي والاقتصادي وغيرها ، وكلها تهدف إلى إنتهاك حقوق الإنسان ومصادرة حرياته ، بدءً بحقه في الحياة ووصولًا إلى حريته في التعبير عن رأيه ، كما أن الإرهاب لا يقتصر على الجماعات الإرهابية بمختلف مسمياتها ونشاطاتها وغاياتها ، فهناك إرهاب الدولة وهو الإرهاب الذي تمارسه الدولة المستعمرة على مواطني الدولة المحتلة ، وهناك الإرهاب السلطوي وهو الإرهاب الذي تمارسه السلطة الحاكمة على المواطنين القابعين تحت سلطتها ، وهناك الإرهاب العنصري والسلالي والفئوي وهو الإرهاب الذي يمارسه أفراد عنصرية أو سلالة أو فئة معينة ضد بقية أفراد المجتمع ، وهناك الإرهاب المادي والتجاري وهو الإرهاب الذي يمارسه أصحاب رؤوس الأموال وكبار التجار وأصحاب المصانع والشركات ضد المستهلكين من أفراد الشعب ...الخ.

و ما يهمنا هنا هو الحديث عن الإرهاب الفكري وهو من أسوأ أنواع الإرهاب ، لأنه يستهدف العقيدة والثقافه والعقل والتفكير ( الجانب الروحي والمعنوي ) ، وهذا النوع من الإرهاب تقوم به السلطات الاستبدادية والقمعية ، التي تعمل على فرض أفكارها سواءً الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو الايديولوجية على أفراد الشعب بالقوة والإكراه والإجبار ، وقد تمارس سياساتها تلك بأساليب غير ظاهرة خوفًا من ردود الفعل الدولية ، كأن تمارس الضغط والتهديد والوعيد والترهيب والترغيب تجاه المواطنين  عن طريق استغلال السلطة والقوة والمال والوظيفة والخدمات العامة لفرض أفكارها ، وتسخّر في سبيل ذلك كل طاقات وامكانيات الدولة ومؤسساتها من إعلام وإذاعة ومناهج دراسية ودور عبادة ..الخ ، وتعمل على محاصرة الأفكار الأخرى المخالفة لها وتضييق الخناق عليها ، وقد تمارس الاعتداءات الجسدية والاعتقالات التعسفية والتهجير القسري ضد المخالفين والمعارضين لسياساتها وأفكارها ، وهنا يتجلى الإرهاب الفكري في أبشع صوره .!

والمثير للدهشة في هذا الموضوع أن كل سياسات وممارسات الإرهاب الفكري عبر التاريخ البشري قد فشلت فشلاً ذريعًا ، وذلك لأن موضوع الفكر والاعتقاد أمر خفي وغير ظاهر ، فباستطاعة الشخص أن يظهر عكس ما يبطن ، وأن يتظاهر بإعتناق أفكار ومعتقدات السلطة الاستبدادية رغم أنه غير مقتنع ولا مؤمن بها، ورغم تمسكه بأفكاره ومعتقداته ، وذلك لأن موضوع الاعتقاد واعتناق الافكار لا يتم إلا عن طريق الرغبة والاقتناع ، لذلك نهى الاسلام عن الإكراه والإجبار في التدين والإيمان واعتناق الأفكار ، وأكّد أن الطريق الأفضل لتحقيق ذلك يجب أن يتم بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار والقدوة الحسنة ، قال تعالى (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة )) ، والإسلام بهذا التشريع القرآني يقطع الطريق بشكل نهائي على ممارسة الإرهاب الفكري ضد الآخر بكل صوره وأنواعه ..!!

ورغم كل ذلك ورغم كل الشواهد التاريخية التي تؤكد عل فشل كل صور وأشكال الإرهاب الفكري عبر التاريخ البشري ، إلا أن هناك سلطات وقيادات وجماعات وحتى دول لم تأخذ العظة والعبرة من ذلك ، ولا تزال تصر على ممارسة الإرهاب الفكري ضد شعوبها أو ضد الآخر الديني والمذهبي ، وهنا تظهر جلياً حالة الغباء والبلادة التي لا تزال مسيطرة على هكذا عقليات وقيادات وجماعات تظن إن بإمكانها استغلال سلطاتها وقواتها وأموالها وسطوتها في فرض الإرهاب الفكري على الآخرين ، واعتقد أن ما يشجعهم ويدفعهم للاستمرار في هكذا سلوكيات سلبية وغير شرعية وغير حضارية وغير إنسانية ، هو مشاهدتهم لبعض من تجبرهم الحاجة أو الظروف أو المصلحة ، وهم يظهرون لهم الولاء والتبعية الفكرية ( الرياء الفكري والديني والنفاق السياسي والمصلحي ) ، رغم إيمانهم الثابت بأفكارهم ومعتقداتهم الراسخة في عقولهم.

 كل ذلك للأسف الشديد يحدث رغم أن التاريخ قد جاء بالشواهد الكفيلة بإقناع كل السلطات والقيادات البشرية على عدم جدوى هكذا ممارسات وسلوكيات ، وأرشدهم بأن أفضل طريقة لنشر الأفكار والمعتقدات تتمثل في القدوة الحسنة والسلوك القويم والحكمة والموعظة الحسنة ، ولكن يبدو أن لكل زمان طغاته وفراعنته ومستبديه، ولهؤلاء أعوانهم وزبانيتهم وأذنابهم ، الذين لا تنفع معهم عظات ولا عبر ولا دروس ولا شواهد ولا حقائق تاريخية ..!!