النظرية العلمانية .. والسلطات الكهنوتية ..!!

09:39 2023/04/26

العلاقة بين الدين والسياسة علاقة معقدة ومتداخلة ومن الصعب وضع حدود فاصلة بينهما ، لأن إصلاح السياسة وتهذيبها وتقويمها من أهم غايات الدين ،  كما أن الدين من أهم الوسائل التي يستغلها السياسيون لتحقيق مصالحهم السياسية وأطماعهم السلطوية ، ورغم ذلك التداخل والتشابك بين الدين والسياسة إلا أن هناك محاولات عديدة لفصل كل منهما عن الآخر ، وتعتبر النظرية العلمانية من أبرز تلك المحاولات وأقواها على الإطلاق ، فقد اشتملت على العديد من الأفكار الجريئة والعملية في هذا المجال ، وهذه النظرية لها جذورها التاريخية ففي القرون الوسطى خلال فترة الصراع بين الأباطرة الأوربيون وبين البابوات المسيحيين ، ظهرت فكرة ( ما لله لله وما لقيصر لقيصر ) ، في محاولة لإيجاد حل وسط يرضي الطرفين وينهي حالة الصراع المستمر بينهما ، والجديد في النظرية العلمانية أنها كانت أكثر جرأة في تعاطيها مع رجال الدين ، حيث دعت إلى ابعادهم عن السياسة بشكل كامل واقتصار دورهم في الكنائس والارشاد الديني ، ومنحت الأفراد الحرية الدينية الكاملة في اعتناق الدين الذي يريدون ، لتنهي بذلك سيطرة السلطة الكهنوتية وتدخلانها القوية في حياة المجتمعات الأوربية لقرون طويلة ، تلك التدخلات السلبية التي وقفت عائقا أمام العلم والعلماء والحداثة والابتكارات العلمية ، والتي كانت تعمل على تجهيل وتخلف المجتمع الأوربي ..!! 
 
ورغم الانجازات الكبيرة التي حققتها النظرية العلمانية للمجتمعات الأوربية في الجوانب المادية ، إلا أنه لا يمكن.تجاهل النزعة الدينية في سياسات وتصرفات ومواقف رجال السياسة الأوربيون ، وخصوصا في مجال العلاقات الدولية ، وعلى كل حال فإن نجاح النظرية العلمانية في اوربا هو رد فعل على حالة التعسف والجور الذي كان يمارسه كهنة الكنيسة ضد المواطنين ، وعدائهم الكبير للعلم والعلماء ، وتدخلاتهم السافرة في حياة الأفراد الشخصية باعتبارهم وكلاء الله في أرضه ، ومن غير المنطقي تعميم تلك التصرفات والأفعال على بقية المجتمعات البشرية التي تعتنق ديانات مختلفة تنظر بكل احترام وتقدير للعلماء وابداعاتهم العلمية ، بل وتشجع عل طلب العلم ( الدين الإسلامي إنموذجاً ) ..!! 
 
وعلى العموم فإن الباحث في هذا المجال سوف يصل إلى أن الدين يسعى دائما إلى إصلاح السياسة وتهذيبها بالقيم الأخلاقية الايجابية بهدف تحقيق الصلاح والسعادة للمجتمعات البشرية، بينما السياسة تسعى دائما إلى إفساد الدين واستغلاله بشكل سلبي ، وجعله مجرد أداة من أدوات السلطة التي يتم استخدامها لتحقيق المصالح السياسة والاطماع السلطوية ، وأهم إيجابيات النظرية العلمانية هي أنها قضت على السلطة الكهنوتية في أوربا ، وحرمت رجال السياسة من الاستغلال السلبي للدين وتكوين سلطات كهنوتية جديدة ، لأنها قد جعلت الدين خارج أدوات السياسة وبعيد عن الاستغلال ، بعكس الحال في المجتمعات الإسلامية التي تقوم فيها بعض السلطات الحاكمة باستغلال الدين الاسلامي بشكل سلبي وتعسفي وجعله أداة من أدواتها السياسية التي تستخدمها لتنفيذ سياساتها وتحقيق أهدافها وغاياتها وتنفيذ برامجها وأفكارها ..!! 
 
بل إن الحال قد وصل ببعض السلطات الحاكمة في العالم الاسلامي والعربي خلال بعض الفترات التاريخية ، أن جعلت من حكامها القائمين بأمر الله والمفوضين نيابة عن الله ، والناطقين بإسم الله ، ووكلاء الله في أرضة وأوليائه المنزهون عن الخطأ والزلل ، وطاعتهم واجبة فهي من طاعة الله تعالى وعصيانهم عصيان لله تعالى ، من تمسك بهم نجا ومن عارضهم هلك ، وهكذا تصرفات وسياسات تمثل الفكر الكهنوتي في أبشع صوره ، كما أنها تجعل من الدين أداة سياسية لفرض إرادت السلطة ومبررا لتدخلاتها السافرة في خصوصيات المواطنين ونهب حقوقهم ومصادرة حرياتهم ، واستغلال الدين بهذا الشكل هو إفساد للدين وتشويه لمعالمه واهدافه وغاياته العظيمة والسامية ، وهكذا سياسات تعيد للأذهان ما كانت تقوم به وتمارسة السلطات الكهنوتية في أوربا قبل الثورة العلمية والتحررية ..!! 
 
كما أن هكذا سياسات تدفع بالكثير من أفراد المجتمعات الاسلامية والعربية إلى اعتناق الافكار العلمانية كرد فعل لمواجهة السياسات الكهنوتية التي تجعل من الدين سوطاً غليظاً لجلدهم واستبدادهم وقمعهم واستعبادهم ومصادرة حقوقهم وحرياتهم ، كل ذلك رغم تعارض تلك الممارسات للسياسه الشرعية الاسلامية التي تهدف الى تحقيق الصلاح والسعادة لكل أفراد المجتمع الإسلامي ، والقائمة على مبادئ عظيمة تحفظ حقوقهم وحرياتهم في مقدمتها العدل والشورى والمساواة ...الخ ، كما أنه لا مكان للفكر الكهنوتي في الدين الإسلامي ، وفرض هكذا فكر فيه تناقض وتعارض كبير مع منهجية الإسلام القائمة على محاربة الكهانة الدينية بكل صورها وأشكالها ، فالسلطة في الاسلام تكليف وليست تشريف ومسئولية وأمانة وليست غنيمة ووراثة ، والحاكم ليس أكثر من خادم وأجير عند الشعب ، بعكس الفكر الكهنوتي المتخلف الذي يصنع حول الحاكم هالات القداسة والتعظيم ..!!