حكاية النفط اليمني وكفاح الرعيل الأول

05:52 2022/11/12

كانت اليمن وبحكم موقعها الجغرافي والتاريخي الهام تعمل في التجارة العالمية منذ القدم، وبحكم ان طريق الحرير التجاري يمر بها ، فكان اليمنيون من أوائل الدول التي عمل أهلها في مهنة التجارة، حيث تمتع اليمنيون بمهارات وقدرات عالية وكانوا بسطاء ماهرين، فكانوا قد عملوا في تبادل البضائع  والسلع مع كل الأمصار والدول القريبة والبعيدة، ووسعوا تجارتهم بكل دول العالم حتى وصلوا إلى أصقاع الأرض لنشر ثقافة وىمجاد العرب ونشر الإسلام ومزاولة مهنة التجارة التي امتهنها اليمنيون ولكسب المال الحلال.
مع فجر الثورة اليمنية الخالدة في عام 1962، اهتمت الدولة اليمنية الوليدة لارتقاء اليمن واليمنيين ونقل ظروف واقع معيشتهم إلى مصاف الدول المتقدمة ، وأن يرتقوا بواقع اليمنيين إلى الأفضل والاهتمام بتوفير كل سبل العيش الكريم من خلال البحث والاستثمار في الثروات الطبيعية الكامنه في باطن الأرض اليمنية والتي يزخر بها الوطن اليمني.
وبعد المضايقات التي تعرض لها اليمنيون العاملون في الدول المجاورة لليمن، حيث كانت اليمن تعتمد على موارد وتحويلات المغتربين اليمنيين ورأس المال الذي يملكه أصحاب رؤوس الاموال بالداخل والخارج في دعم الاقتصاد الوطني للبلاد، إلا أن الله الكريم من بكرمه بأن تتوجه جهود الدولة اليمنية لتبني إستراتيجية البحث عن بدائل وطنية لضمان العيش الكريم لابناء الشعب اليمني.
ففي بداية الثمانينيات من القرن العشرين، وجد اليمنيون أنفسهم أنهم بحاجة إلى البحث عن مصادر اخرى للدخل وتعزيز الوضع الاقتصادي للبلاد، وبالرغم من أنهم كانوا ينظرون وبيأس شديد وهم يفتشون عن مصدر آخر للدخل للدولة اليمنية، حيث في تلك الأثناء بدأت تباشير ظهور الاستكشافات النفطية من باطن الأرض اليمنية، وكانت هناك فرصة ذهبية متاحة لليمنيين بأن يلتحقوا بهذا المجال الجديد والاستثمار به بدلًا من الهجرة للخارج، وخصوصًا أهل تلك المناطق التي يوجد بها النفط من أهل البادية والصحراء.
ولكن الحياة بكل تعقيداتها وتقلباتها كانت تتطلب من الإنسان اليمني الطموح أن يتكيف مع المستجدات والظروف، فهكذا بدأوا وهكذا استمروا في نسج حكاية استكشاف النفط في اليمن على يد تلك القيادة السياسة الشجاعة و ذلك الرعيل الأول من المهندسين والفنيين اليمنيين المكافحين والذين رسموا مسار الخير وتباشيره في ثنايا تفاصيل بعض تلك الحقبه الهامة من استكشاف وتطوير النفط، ورسم معالم مرحلة هامة ستذكر ىبناء الحاضر والمستقبل بميزة عريضه من الكفاح والعزم التي تؤرخ للأجيال، وخصوصًا أولئك النفر من المهندسين المتألقين الذين رافقوا إصرار وعزم هؤلاء الرواد في صنع مستقبل النفط وبحبوحته التي نعيشها اليوم.
سطر هؤلاء الرواد الذين رافقوا استكشاف النفط اليمني في محافظة مأرب وحضرموت والمحافظات اليمنية الأخرى أروع معاني الكفاح، ولم يصبهم الإحباط ولم يتخاذلوا رغم الظروف الصعبه التي واجهوها، وجابهوا مهامهم ليسهموا في تطوير ثروة بلدهم النفطية، وكانوا القدوة المشرفة للأجيال التي آتت من بعدهم.
ومن هولاء الرواد اليمنيين الذين كان لهم السبق في الإسهام في تطوير الصناعة النفطية باليمن الدكتور علي عبدالرحمن البحر رئيس مؤسسة النفط سابقًا، وعدد من الطاقم الفني الذي عمل معه في تلك الفترة، حيث شهدت اليمن في عهده توقيع أول اتفاقية في حقول صافر مع شركة هنت اليمنية للنفط بحقول صافر بمحافظة مأرب في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، خلال أيام حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح ورفيق دربه الرئيس علي سالم البيض، حيث شهد الشطر الجنوبي من اليمن قبل الوحدة توقيع اتفاقية بالإنتاج من محافظة حضرموت، فقد شهد اليمن في تلك الفترة ولأول مرة تدفق النفط الخام من بئر ألف واحد في حقل ألف النفطي بصافر.
واستمر تطور الصناعة النفطية بخطوات ليست كبيرة ولكنها كانت مدروسة وكانت في الاتجاه الصحيح، على سبيل المثال: إيجاد الخرائط النفطية ومؤتمرات الترويج للصناعة النفطية في البلاد وبشكل عام في كل المجالات المختلفة في الاستكشاف وإنتاج والتكرير والبتروكيماويات وغيرها من مصادر الصناعة النفطية. كما شهدنا يمننة في تطوير الكادر الوطني اليمني من خلال إدارة المنشآت النفطية المختلفة، في حقول صافر بمأرب وحقول المسيلة في حضرموت وشبوة وغيرها ، وتطوير مشروع الغاز المسال.
وهناك الكثير من الأشخاص والقيادات النفطية اليمنية والذين شهدوا تلك الفترة، وكانت لهم مساهمات متواضعه في تطوير الصناعة النفطية من خلال زيادة في الإنتاج، وتطوير مراحل الاستكشاف والمصافي النفطية، من خلال دعم وتشجيع الكادر الوطني بدوون تمييز مناطقي أو طائفي أو حزبي، والذي لا تزال قيمهم ومساهماتهم شاهدة للعيان.
كما سأذكر في هذه الحلقة وعلى سبيل الذكر لا الحصر الدكتور رشيد بارباع وزير النفط السابق، والذي شهد النفط اليمني خلال توليه مقاليد سلطة وزارة النفط طفرة إيجابية من حيث زيادة في الإنتاج، وتطوير كبير في مراحل الاستكشافات وتمكين الكوادر الوطنية من إدارة المنشآت، وقد كان ما يميزه أنه يتعامل مع أبناء الصناعة النفطية من جميع محافظات اليمن بكل مسؤولية وأخلاق دوون تمييز. كما نود أن نشير إلى إسهامات قامة وطنية نفطية أخرى، إنه المهندس محمد حسين الحاج، تلك الشخصية التي شكلت حالة نادرة وفريدة ومتميزة جمعت بين المهنية الوظيفية والمسؤولية الأخلاقية والقانونية خلال مسيرة العطاء التي قدمها لوطنه، حيث يعد المهندس محمد الحاج من أولى القيادات التي عملت بشكلٍ مبكر في إدارة وتطوير والحفاظ على مصافي عدن العملاقة وإدارته للشركة اليمنية للاستثمارات النفطية والنجاحات الكبيرة التي تحققت في عهده. كما كان للمهندس الحاج السبق في إدارة شركة صافر للاستكشاف وإنتاج النفط عندما تسلمت قطاع 18 النفطي بعد انتهاء عقد شركة هنت اليمنية للنفط، وحقق نجاحات عظيمة وقوية في جعل شركة صافر أكبر وأهم شركة وطنية في اليمن، حيث أثبت خلال كل مراحل ترؤسه تلك المناصب حرصه على دعم مقدرات الكادر اليمني في إدارة الصناعة النفطية بشكل مستقل حيث دعم الكوادر اليمنية وأكسبها الثقه الكافية لإدارة وتشغيل شركة صافر كأول واهم شركة وطنية نفطية باليمن.
كما نشير إلى دور قامة نفطية وطنية أخرى أسهمت في تطوير الصناعة الوطنية النفطية منذ وقت مبكر أنه المهندس مسعد الصباري والذي كان له دور كبير في يمننة الوظائف، من خلال إحلال الكادر الوطني محل الكادر الأجنبي في قطاع 18 بمأرب ، وعمل سياسة توازن في إستمرار العلاقة بين الشركات المختلفة. كما أن له دورا بارزا في تأسيس شركة التكرير النفطية وإخراجها الى حيز الوجود، واستلام وإدارة مصافي مأرب النفطية من شركة هنت الأمريكية، حيث لا زالت هذه المصافي تعمل بكفاءة عالية إلى اليوم بفضل إسهامات هذا الرجل الوطني، والمهندس النفطي الذي يشهد له الجميع بوقوفه الصادق والمعلن إلى دعم الكادر الوطني في كل الشركات، كما أنه حافظ على مصافي عدن ومصافي مأرب وإبقائها في حالة جيدة من الصيانة والإنتاج المستمر ودعم الاقتصاد النفطي اليمني.
هؤلاء الرواد استحقوا التكريم وىن نذكر جزءاً يسيرًا من إنجازاتهم، ولكن سعادتهم الحقيقية كانت في رؤية هذا القطاع النفطي يتطور ويتحسن إلى الأفضل بمشاركة المختصين والمهندسين اليمنيين الذين ساهموا في دعمهم وتبوئهم مناصب قيادية وفنية وبلوغهم هذه المكانة الرفيعة، وكان هؤلاء الرواد جزءا هاما في تطوير القطاع النفطي بشكل خاص، وهذا كان أغلى وةثمن هدية قدموها لوطنهم ولشعبهم والتي لا تقدر بثمن. نأمل من قيادة وزارة النفط والحكومة الاستعانة من الخبرات المتراكمة لتلك القيادات النفطية السابقة، نظرًا لما تواجهه الصناعة النفطية من تحديات خطيرة بسبب الحرب والصراع والذي فرض واقع ومتغيرات صعبه على مستقبل النفط والغاز اليمني.
وفي الحلقات القادمة سنذكر مزيدًا من التفاصيل وإسهامات الرعيل النفطي اليمني الأول والذي كان له دوور في تطوير والحفاظ على الصناعة النفطية، تلك القيادات النفطية النزيهة والذين آثروا البقاء في وطنهم لخدمته والحفاظ على تلك المكتسبات الوطنية والاقتصادية الهامة.
ولكن ‏في مقابل ذلك النشاط، ‏فإن وزارة النفط والشركات الوطنية ربما ‏أغفلت ‏أو نسيت ولم تحتفل وتستذكر ‏الرجال من الرعيل ‏الأول من الذين التحقوا ‏بالشركات ووزارة النفط والهيئات التابعه منذ ‏تأسيسها وعملوا في حقول النفط منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، والذين أمضوا ‏شبابهم وجل أعمارهم في خدمة بلادهم في ظروف مناخية قاسية، ألا ‏يستحق التكريم هؤلاء الرجال ‏العاملون الذين نذروا ‏أنفسهم في تلك الحقبة ‏من تاريخ البلاد والبذل والعطاء في تلك ‏الظروف ‏كي يوفروا لبلدهم ‏هذا المورد من الذهب الأسود، الذي يعتبر ‏الدخل الرئيسي ‏للبلاد، ‏والذي ‏قامت عليه النهضة التعليمية والصحية والعمرانية ‏وجميع ‏الخدمات التي يشهدها الوطن ومازالت هذه المادة الثمينة ‏تمد بلادنا الغالية بهذه الثروة التي عم خيرها ‏كل أرجاء الوطن.
فالتدهور في القطاع النفطي اليوم يستلزم من المعنيين في اليمن في الحكومة وقيادة وزارة النفط كلها النظر إلى أصحاب الكفاءات والمعايير الوطنية والخبرات في مجال الصناعة النفطية والغازية، لمساعدتهم في مواجهة  المخاطر والصعوبات والتحديات الجسيمة التي يمر بها القطاع النفطي اليوم، وحتى يتم إيقاف هذا التدهور الحاصل وإصلاح ما يمكن اصلاحه، والنهوض بثروات اليمن وتطوير الصناعة النفطية أسوة بالدول الأخرى، والاستعانة بهذه الخبرات ، فالنفط خبرات متراكمة ومتواصلة لا يوجد فيها انقطاع، بل هي صناعة مستمرة ومتطورة على مر الأجيال.
 
** الحلقة الأولى
*رئيس مركز مداري للدراسات والأبحاث الإستراتيجية.
12 نوفمبر 2022