المولد النبوي الشريف.. ومعركة الخلاص من الكهنوت الأرضي

08:10 2022/10/08

لن أبالغ إذا قلت بأن يوم مولد الرسول محمد عليه الصلاة والسلام هو اليوم الذي بدأت منه أقوى معركة للخلاص من قيود وأغلال الكهنوت الأرضي التي تكبل عقول البشر عن التفكر والتدبر في آفاق الكون المفتوح، والتي تقيد حرياتهم وتصادر حقوقهم وتسلب كرامتهم الإنسانية لتجعل منهم قطعان من الأنعام يقودها الحكام والكهنة كيفما يشاؤون ووقتما يشاؤون. فالبشر عندما يعطلون عقولهم عن التفكر والتبصر والبحث، وعندما يفقدون حرياتهم وحقوقهم وكرامتهم الإنسانية فإنهم يضلون سواء السبيل ويسقطون.في مسالك العبودية والذل والهوان. ويصبح كل همهم في هذه الحياة هو الأكل والشرب والبقاء على قيد الحياة كالأنعام بل هم أضل، والسمع والطاعة لأسيادهم وأولياء نعمتهم، لأنهم قد فقدوا المميزات والقدرات التي منحها الله تعالى لهم وفضلهم بها على كثير من مخلوقاته، وفي مقدمتها العقل فالحرية والعزة والكرامة الإنسانية... الخ. 
 
نعم، لقد ظل الكهنوت الأرضي يستغل البشر ويستغفلهم ويستلب عقولهم وينتهك حقوقهم وحرياتهم قرون طويلة. وكلما أنزل الله تعالى رسولاً من عنده يدعوهم لتفعيل عقولهم واسترداد كرامتهم الإنسانية، انتفض الكهنوت الأرضي وكشر عن أنيابه وحرك زبانيته وأعوانه وأشراره لتكذيب الرسل ومحاربتهم وتسفيه أقوالهم، وصولاً إلى تشريدهم وقتلهم والتنكيل بهم، فيأتي عذاب الله تعالى لينتقم منهم أسوأ إنتقام وهكذا. وللأسف الشديد لم تكن الأمم اللاحقة تأخذ العظة والعبرة مما حدث للأمم السابقة، فسرعان ما كان الكهنوت الأرضي يستحوذ عليهم ويتحكم بهم ويوردهم مسالك الشر والسلبية. حتى الأمم التي انتشرت فيها رسالات السماء كاليهودية والنصرانية، لم تسلم من سقوطها في مستنقع الكهنوت الأرضي، وإن كان ذلك باسم الدين نفسه وعلى يد رجال الدين أنفسهم الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وتجارة ومصالح، وليتحولوا إلى كهنة فرغوا الدين من محتواه ومن تشريعاته العظيمة التي تحث الإنسان على تفعيل عقله وعبادة خالقه على بينة وبصيرة ويقين، وجعلوا من أنفسهم أوصياء على الدين ووسطاء بين الإنسان وخالقه ، ليوزعوا صكوك الغفران ومفاتيح الجنة حسب أهوائهم وبما يحقق مصالحهم ويلبي إشباع غرائزهم وشهواتهم، ليستمر الكهنوت الأرضي في بسط سيطرته على حياة البشر، بعد أن نجح في تحريف الكثير من التشريعات التي جاءت بها الأديان السماوية، وبعد أن جعل رجال الدين فيها عبارة عن كهنة وسدنة له بإسم الدين. 
 
ليأتي رسول الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام برسالة الإسلام، التي تكمل ما جاءت به الرسالات السماوية السابقة في مجال توحيد الألوهية ، وتحمل أفكاراً جديدة قادرة على تقويض الكهنوت الأرضي ومحاصرته وكشف زيفه وضلاله، من أهمها دعوة العقل البشري إلى التفكر والتدبر والتبصر والتأمل في كل ما يدور حوله، والتأكيد على أن العلاقة بين الإنسان وخالقه علاقة مباشرة لا تحتاج لوسطاء ولا أوصياء ولا أولياء ولا كهنة، ليتلقى الكهنوت الأرضي بذلك ضربة قوية هزت أركانه وكشفت زيفه وضلاله. فلا كهانة ولا عرافة ولا شعوذة ولا خرافات ولا أساطير في الإسلام. هو الوحي والعقل يكمل بعضهما بعضاً، لتتساقط قلاع الكهنوت الأرضي تباعاً أمام عظمة وقدسية الوحي الإلهي (القرآن الكريم) وأمام قدرات العقل البشري الكثيرة والمتعددة، القادرة على قراءة وتحليل ودراسة آيات الله المقروءة والمحسوسة والمشاهدة والمنظورة. 
 
ورغم ذلك، لم ييأس الكهنوت الأرضي بقيادة إبليس وزبانيته وأعوانه، ولم يتوقف عن المقاومة والدفاع عن مملكته العريقة ، فتارةً يحاول إحداث اختراق في الإسلام عن طريق التعصبات والإنقسامات والخلافات المذهبية والطائفية، وتارةً عن طريق إضفاء القدسية على اجتهادات وآراء وتفسيرات وفتاوي فقهاء المسلمين وجعلها جزء من الدين ، بل قد يصل الحال ببعض المتعصبين لمذاهبهم وطوائفهم إلى منح تلك الأفكار البشرية قدسية تفوق قدسية الوحي الإلهي، وتارةً عن طريق الدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد بهدف تجميد وتعطيل العقل المسلم عن التفكر والتدبر والاجتهاد لمواجهة البدع والضلالات والخرافات والأساطير، وتارةً عن طريق الدفع ببعض المتعصبين لطوائفهم ومذاهبهم إلى إضفاء هالة من القداسة والتعظيم حول أمرائهم وقياداتهم وأئمتهم، في محاولة لإستنساخ صورة جديدة للكهانة وإن كانت باسم الإسلام. 
 
لكن جميع تلك المحاولات سرعان ما تتساقط أمام العقل المسلم الواعي والمفكر والمتدبر والباحث والمتحرر من قيود التعصبات بكل أشكالها، لأن جميع تلك المحاولات تتعارض مع الوحي والعقل، وكل ما يتعارض مع الوحي والعقل، سرعان ما ينكشف ضلاله وزيفه وتبور تجارته، ليكون النصر في نهاية المطاف للوحي والعقل ، وليظل الكهنوت الأرضي يراوح مكانه ويخسر معاركه أمام يقظة ووعي العقل المسلم وفهمه السليم للوحي الإلهي. لذلك كان وما يزال وسيظل يوم مولد الرسول عليه الصلاة والسلام يوماً عظيماً في تاريخ البشرية وليس المسلمين فقط. فمنه بدأت أشرف وأقدس معركة في تاريخ البشر، ضد الكهنوت الأرضي بكل أشكاله وأنواعه، إنها معركة الحرية والتحرر من عبادة وتقديس العباد إلى عبادة وتقديس رب العباد، والمعركة العظيمة التي منحت الإنسان كرامته الإنسانية الكاملة، ومنحت العقل المسلم كامل الحرية للتفكر والتدبر والبحث في كل مجالات الحياة. وعلى كل مسلم الحذر واليقظة من أي محاولات لتأسيس كهانات جديدة تحت أي مسميات كانت.