الوصاية الإيرانية وهشاشة الدولة في لبنان
لبنان الذي يتداعى كدولة ودور عربي، تحول فيه قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية إلى نجوم بقوة الهوية الأمنية التي رفع حزب الله من شأنها ليس في مواجهة المخاطر الخارجية، بل في مواجهة نموذج التعدد والتنوع اللبناني بمفهومه الثقافي والسياسي.
في اليومين الماضيين اكتشف أحد الناشطين اللبنانيين، الذي قام بمبادرة إجراء فحوص مخبرية لمياه الشفة التي يستخدمها المواطنون في الضاحية الجنوبية لبيروت، أن هذه المياه فيها تلوث عال من البراز البشري.
هذا في بلد يقال إنّه عائم على المياه، وفيه مصادر مائية متنوعة كانت تميزه عن دول المحيط، لكن واقع الحال يقول إن لبنان لم يعد كذلك، لا لنقص في مصادر المياه الجوفية والسطحية، بل بسبب يتمثل في غياب الرقابة، أو غياب الدولة التي باتت في عهدة مجموعة من المافيات لا تبالي بمطالب الناس وحقوقهم البديهية، باعتبار أن المواطنين باتوا مستلبين بشعارات المذهب والطائفة التي زادت في تهميش الهوية الوطنية إلى حد غير مسبوق، وجعلت السلطة قادرة على التمادي في سلوكها المدمر للإدارة العامة، ما دامت مطمئنة إلى أن المواطن لن يهتز أو يعترض إلا إذا مُسّت جماعته الطائفية بسوء، أو تعرّضت هويته الضيقة لما يستفز عصبيتها الجاهلية.
لذا ليست مشكلة المياه ما يعانيه اللبنانيون، فهي مثال لحال كل ما يتصل بمسؤوليات الدولة ومؤسساتها، وهذا ما يجري أيضا في قطاع إنتاج الطاقة الكهربائية وتوزيعها، فأم الفضائح تكمن في هذا القطاع الذي يشكل مزرابا للهدر والفساد، وعنوانا للذهنية التي تدير القطاع العام، حيث تعاني مؤسسة كهرباء لبنان من عجز سنوي يتجاوز المليار ونصف مليار دولار، فيما لا تتجاوز ساعات التغذية إثنتي عشرة ساعة في اليوم الواحد، بينما نشأ في موازاة المؤسسة الرسمية قطاع خاص يمتلك آلاف المولدات الكهربائية بحماية أطراف السلطة ويحقق أرباحا عالية من دون أن يدفع أي ضريبة للدولة.
هذان النموذجان بما يمثلان من مستوى انهيار الدولة، يتصلان بشكل مباشر بالتحول الذي يشهده لبنان، وهو تحول لا يمكن فصله عن المشروع الذي يريد أن يجعل من المكون الوطني اللبناني مكونا هامشيا، لحساب مكونات يجري ترسيخها وتثبيتها من خلال عناوين التهديد والحماية، وهذا ما يتم باسم السيطرة الإيرانية عبر نقل لبنان إلى مرحلة جديدة تتيح لها الاستمرار والبقاء، بجعل الوطن الصغير منزوع الهوية الوطنية، عبر الإعلاء من شأن الهويات المذهبية والطائفية، وهذا يتم من خلال المزيد من تحفيز المشاعر الطائفية وإيهام كل من الطوائف والمذاهب بأنها قادرة على بناء نفوذ وسيطرة ونظام غلبة.
فرئيس الجمهورية، وتياره الوطني الحر، تقوم منهجيتهما على إعطاء حزب الله وإيران كل ما يريدان من غطاء لبناني في الأمن وفي السياسة الخارجية، مقابل إطلاق يد التيار الحر وكتلته المسيحية في السيطرة على أكبر قدر من المكاسب الداخلية، وهذا ما يدفع بعض العصبيات المذهبية والطائفية المقابلة، وتحت ذريعة لجم شهية التيار الوطني الحر، إلى الاستعانة بحزب الله لدرء مخاطر اجتياح الرئيس وتياره لما يعتقدانه حقوقا مكتسبة لهذه الطائفة أو تلك، هذه المعادلة هي التي تجعل حزب الله والنفوذ الإيراني في موقع الحكم والوصي على بقية الطوائف، لا بل تتيح لحزب الله أن يتخفف من أعباء الاتهامات بإضعاف الدولة ويلقيها على بقية القوى، مستفيدا من مشهد التنازع الذي يغذيه ويحفظ لنفسه موقع المصلح فيما بينها عندما يرى إلى ذلك حاجة لديه.
يساهم بترسيخ التنازع بين القوى المحلية غياب أي جهد عربي أو دولي يُعتدُ به في مواجهة إبقاء الدولة معلقة، وغياب أي محاولة للحد من تحويل لبنان إلى قاعدة إيرانية لتنفيذ مهمات أمنية وعسكرية في أكثر من منطقة عربية. وطالما أنّ إيران ملتزمة بعدم المساس بالأمن الإسرائيلي، فلا مانع دوليا من استمرار سيطرة حزب الله وتحكمه في لبنان، بل لا موانع فعلية من إطلاق الأذرع الإيرانية في أكثر من منطقة عربية، ولا مانع على ما يبدو من إسقاط مشروع الدولة في لبنان لحساب تعزيز الهشاشة، عبر تثبيت أن لبنان مسرح لعصبيات مذهبية وطائفية تتصارع ضمن الخطوط الحمر التي يرسمها النفوذ الإيراني ويسعى إلى تعميمها في أكثر من دولة عربية.
الصحافة اللبنانية التي تتلاشى مع تلاشي مشروع الدولة، تنحسر لحساب منابر إعلامية غايتها حماية المعادلة المسيطرة. إغلاق الصحف وتهديد الصحافيين يتمان في سياق تثبيت أنّ الصحافة والإعلام يجب أن يكونا في خدمة معادلة النفوذ القائمة، إذ لم تعد في لبنان مساحة إعلامية مستقلة عن المعادلة الحاكمة، وإن بدت بعض المنابر الإعلامية تحاول مواجهة الخطوط الحمر التي وضعها حزب الله، فإنّ القضاء -وغيره من الأجهزة الأمنية- كفيل بلجمها أو محاصرتها.
يبقى أن المشروع الذي تبشر به إيران في لبنان والمنطقة، لا يبدو قابلا للاستمرار، فهو يوفر الخسائر الوطنية والعامة، ولا يتيح الاطمئنان لما يبدو مكاسب خاصة أو طائفية، فالمؤشرات تنذر بالمزيد من الانهيارات الاجتماعية والاقتصادية، من دون أن تحمل أي إيجابية أو حلم سيتحقق في المستقبل. هذا لا يعني أنّ غياب الحلم هو ما يمكن أن يعيق استمرار النفوذ والسيطرة والتحكم في لبنان، بل غياب البدائل التي يتطلب وجودها قيام انتفاضة لبنانية من أجل حماية الدولة، فالعجز عن تشكيل حكومة اليوم وبعد خمسة أشهر من استقالة الحكومة، هو مؤشر على حاجة إيران إلى تظهير أنّ المشكلة في الدولة والمجتمع، علما أنّ حزب الله بما يتمتع به من نفوذ قادر على تشكيل الحكومة خلال ساعات، بسبب قدرته على الضغط على كل الأطراف والخصوم قبل الحلفاء.
حزب الله نجح بالتهديد في منع قيام لقاء لشخصيات لبنانية دعا إليه لقاء سيدة الجبل، في أحد فنادق بيروت، تحت عنوان مواجهة الاحتلال الإيراني للبنان، وفي ذلك إشارة إلى أن لبنان وفي عزّ الحرب الأهلية لم تكن فيه أي سلطة مهما بلغت قادرة على أن تمنع قيام أي نشاط سياسي أو ثقافي مهما كان شعاره، اليوم في لبنان يمكن أن تقوم بأيّ نشاط ضد أية دولة ومن أجل أية قضية، لكن يمنع القيام بنشاط ضد السياسة الإيرانية أو ضد السلاح غير الشرعي.
لبنان الذي ظل عصيا على الاحتلال الإسرائيلي وتمرد على وصاية النظام السوري يدخل مرحلة جديدة ليست أقل خطرا من الوصاية السورية والاحتلال الإسرائيلي، وإن كانت أكثر تعقيدا، لكن واقع الحال يقول إن لبنان يفقد مكونات وجوده وقدرته على الحياة، وليس أمامه الآن إلا أن يدافع عن حقه في البقاء وفي الوجود.
أخطر ما يتعرض له لبنان في ظل الوصاية الإيرانية هو تعميم الهشاشة في كل شيء، على مستوى الدولة والانتماء الوطني والحرية، والمنبر الثقافي الذي طالما كان لبنان مصدراً له في المنطقة.
وظني أنه لن يتنازل مهما كانت شراسة الوصاية الجديدة التي لا تحمل في طياتها إلا التخريب فيما قدر اللبناني أن يبني.
*نقلا عن صحيفة "العرب".