عبود الشرعبي.. مسجَّلٌ في مستعمرة عدن
ظلت تعز على مدى قرن وأكثر من 27 عامًا من عمر الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن، حاضنةَ الثوار ومصدرَ تدفقٍ للفدائيين الذين سطّروا بطولاتٍ وطنية في مقارعة الاحتلال البريطاني.
وقد برزت العديد من الأسماء التي استُشهدت وهي تقارع المحتل، منهم الشهيد مهيوب علي غالب الملقب بـ عبود الشرعبي، وهنا يتذكر من عاش ساعات النضال الوطني كيف توقّف بثُّ أحد البرامج في راديو لندن فجأةً، معلنًا عن خبرٍ غير عادي: «لقد قُتِلَ عبود» — ذلك الشاب القادم من قرية الجبّانة، عزلة الدعيسة في شرعب الرَّونة، عام 1945م، برصاصة قنّاصٍ بريطاني.
إنه عبود الشرعبي، الذي ترعرع يتيمًا، إذ تُوفي والده وهو في الثالثة من عمره، فالتحق بالكُتّاب وأتم حفظ القرآن وبعض المعارف الأخرى وعمره عشر سنوات، ثم انتقل إلى عدن والتحق بالمدرسة الأهلية في التواهي، لكنه اضطر إلى تركها لأسبابٍ معيشية. غير أن الالتحاق بالثورة كان هاجسه الدائم، وظل يلازمه في فترة شبابه حتى التحق عام 1961م بـ نادي الأعروق في المعلا، وهناك تعرّف على مبادئ وأهداف حركة القوميين العرب.
وعند انطلاقة ثورة 14 أكتوبر عام 1963م بقيادة الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، أصبح عبود عضوًا في الجبهة القومية وضمن قيادة العمل السياسي والفدائي في عدن.
ومطلع عام 1964م، سافر عبود مع مجموعة من الفدائيين إلى تعز ضمن كوكبة من الثوار للالتحاق بدورة تدريبية عسكرية، عاد بعدها إلى عدن لتشهد عودته تنفيذ العديد من العمليات الفدائية الكبرى ضد قوات الاحتلال البريطاني.
وفي نهاية عام 1964م، كان قد شغل عدة مناصب قيادية في قيادة القطاعات الفدائية للجبهة القومية في عدن، وصار من أبرز قيادات القطاع الفدائي للجبهة القومية في مستعمرة عدن.
وفي يناير 1965م، كان عبود عند الخامسة صباحًا خارجًا من منزل رفيقه أحمد قاسم سعيد، حين كان حشدٌ من القوات البريطانية قد طوّق المكان بعد معلومات من جواسيس وعملاء شاهدوه يدخل المنزل، ليتم اعتقاله وإيداعه سجن المنصورة لمدة ستة أشهر، عانى خلالها ما لا يُطاق من التعذيب الجسدي والنفسي، وصل إلى حدّ تقطيع بعض أصابعه، ثم تم نفيه إلى تعز.
ولما كانت قيادة الجبهة القومية المتواجدة في تعز قد عرفت عبود وصدقه في النضال ضد المستعمر البريطاني، قامت بابتعاثه إلى الخارج لتلقّي دوراتٍ تدريبية حول أساليب وطرق قيادة حرب العصابات والعمل الفدائي. وبعد إتمامه هذه الدورات عاد وقد اتّسعت خبرته في مواجهة الاحتلال، كما حصل على العديد من بطائق القادة العسكريين التي مكّنته من تنفيذ عملياتٍ فدائية في أخطر المواقع البريطانية في عدن.
ورغم أن عبود كان في مواجهة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فإنه كان يعلم أن له إخوةً في شمال الوطن يواجهون الإمام، فكان من بين من شكّلوا فرقًا في عدن لجمع التبرعات المالية وإرسال المتطوعين للدفاع عن الجمهورية، بالإضافة إلى تعقّب وملاحقة فلول الملكيين الذين كانوا يحاربون الجمهورية من عدن وبيحان.
وهناك أخبار غير مؤكدة تشير إلى أنه شارك فعليًا في صفوف الثورة بمحافظة حجة، كما أنه اكتشف عمليةً كبيرة كان يُخطط لها الملكيون بإشرافٍ وتمويلٍ من الاستخبارات البريطانية، وكانت الخطة تقضي بنسف القيادة المصرية في تعز بسيارة لاندروفر مفخخة.
لكن عبود اتفق مع الشخص الذي وُكّل بتنفيذ العملية على استلام السيارة والمكافأة، ثم تسليم نفسه مع السيارة إلى القيادة المصرية في تعز — وقد حدث ذلك بالفعل.
وفي يوم السبت 11 فبراير 1967م، استقل عبود سيارته المعبّأة بالألغام، وكان قد سبقه رفيقه الشهيد الدوح وآخرون إلى مدينة الاتحاد، حيث قاموا بتفخيخ الساحة التي كانت تتهيأ لإقامة الاحتفال بعيد الاتحاد، بحضور السلاطين ووزراء حكومة الاتحاد الفيدرالي والقادة والمسؤولين البريطانيين.
لكن لسوء الحظ، وعند حضور المندوب السامي البريطاني وقائد قواتهم في الشرق الأوسط على متن طائرة مروحية، اكتشفوا أن الساحة مزروعة بالألغام والمتفجرات، فلم تهبط الطائرة، وفرّ السلاطين والعملاء والضباط البريطانيون من المكان.
غير أن عبود ورفاقه كانوا قد أعدّوا خطة (ب)، فأمطروهم بوابلٍ من قذائف المدفعية، فسقط الكثير منهم بين قتيلٍ وجريح، واستُشهد في هذه العملية الشهيد الدوح.
بعدها توجّه عبود من مدينة الاتحاد إلى الشيخ عثمان، وقاد بنفسه المعارك التي اندلعت في اليوم نفسه بين فدائيي الجبهة القومية والقوات البريطانية.
ويُذكر أنه اعتلى سطح إحدى ناقلات البريطانيين وألقى قنبلةً انفجرت مخلّفةً العديد من القتلى والجرحى، ثم لاذ بالفرار عبر سوق البلدية في الشيخ عثمان.
لكن جنديًا بريطانيًا كان متمركزًا على سطح عمارة البنك القريب من مسجد النور رصده وأطلق عليه عدة رصاصات، فسقط شهيدًا بعد صولاتٍ وجولاتٍ أشعلت جذوة التحرر والاستقلال، وهزّت كيان بريطانيا.
ترجّل هذا الفارس الذي اعتبرته بريطانيا أخطر فدائي واجهته في عملياته القتالية، من صهوة جواده، ليكتب النهاية لقصة شابٍّ صال وجال وأثخن في جنود المحتل الغاصب وقياداته العسكرية.
الرصاصة التي أطلقها القنّاص البريطاني في 11 فبراير 1967م، لم تتسبّب إلا برحيله، لكنها عجزت عن حجب ذكراه وخلود اسمه واسم كل الشهداء الذين عبّدوا بدمائهم تراب عدن، لتمضي سفينة الكفاح والنضال نحو شاطئ الحرية في الثلاثين من نوفمبر.