الطغيان الناعم .. حين يتحدث العجري عن “غياب الأقليات”
في زمن تتبدّل فيه مفاهيم السلطة، وتعيد فيه الشعوب تعريف علاقتها بالدين والدولة والهوية، يظهر علينا بين الفينة والأخرى من يحاول إعادة تسويق الخطاب الشمولي بعبارات ناعمة، تبدو – في ظاهرها – منفتحة وإنسانية، لكنها في جوهرها لا تختلف كثيرًا عن ذلك المنطق الفرعوني المتعالي الذي لا يرى في الناس إلا أتباعًا أو خصومًا.
من هذا الباب، جاءت تغريدة عبدالملك العجري، عضو وفد الحوثيين المفاوض، والذي فُرضت عليه مؤخرًا عقوبات أمريكية بتهم متعلقة بالإرهاب، حين قال في محاولةٍ لإظهار التنوير والانفتاح: “لا توجد في منطقتنا لا أقلية ولا أكثرية".
وللوهلة الأولى، قد يُظن أن العجري ينطلق من مبدأ المساواة ورفض التصنيفات، غير أن الواقع وسياق الخطاب الحوثي بأكمله، يكشف أن المقصود هنا ليس إنكار التمييز، بل إنكار وجود الآخر من الأساس. فمن يقول “لا أقلية ولا أكثرية” في ظل واقع يشهد تمييزًا طائفيًا ممنهجًا، واقتلاعًا سياسيًا وهوياتيًا لكل ما هو خارج السلالة، إنما يريد أن يكرّس مقولة: “ليس في هذا البلد إلا نحن”، وهذه لغة لا تنتمي إلى عصر الدولة والمواطنة، بل إلى حقب الظلام والاستعباد.
وليس من المبالغة في شيء أن نقول إن ما تبنيه جماعة الحوثي اليوم من خطاب وممارسة، يضعها في مصاف الطغاة الذين مرّوا بالتاريخ. فـفرعون حين قال لقومه “ما أريكم إلا ما أرى”، كان يقرّ – على الأقل – بوجودهم كمحكومين. أما هؤلاء، فقد تجاوزوا هذا الحد، فهم ينكرون وجود الآخر ذاته، ويحاولون محوه من الخريطة السياسية والاجتماعية والثقافية.
واللافت في المفارقة، أن هذا الخطاب المتغطرس، ينطلق في لحظة تاريخية تشهد فيها معظم دول العالم – بما فيها القوى الكبرى – تحولات عميقة نحو الاعتراف بالتعدد، واحترام حرية المعتقد، وتكريس حق الإنسان في أن يختار فكره ودينه دون وصاية أو قسر. صحيح أن هذه الدول لا تخلو من العيوب، وأن مصالحها كثيرًا ما تطغى على مبادئها، لكن حتى في حسابات السياسة، لا يمكن مقارنة أنظمة تفصل بين السلطة والدين، وتحمي حقوق الأقليات، بعقلية لا ترى في التنوع إلا تهديدًا يجب سحقه.
إن تغريدة العجري ليست معزولة عن السياق، بل تأتي في صلب استراتيجية “الفرعونية المعاصرة” التي تتبعها جماعته، حيث يتم استخدام الدين لا للهداية بل للهيمنة، ويتم تسويق “القداسة” ليس لتعظيم القيم، بل لتبرير الاستئثار والقمع والتمييز.
لقد تحولت اليمن، بفعل هذه العقلية، إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، ليس فقط بسبب الحرب، ولكن بسبب احتكار الحقيقة، وتقديس السلالة، وتجريم الاختلاف، وتجويع الناس باسم الله.
وبينما يتحدث العجري عن “غياب الأقليات”، يعيش الآلاف من اليمنيين تحت التهديد أو النفي أو السجن أو التهميش، لا لشيء سوى لأنهم لا يشاركون الجماعة معتقدها، أو لا ينتمون إلى نسبها.
في النهاية، لا يمكن لأي مشروع سياسي أن ينهض على الإنكار والإقصاء والخطاب المراوغ. ولا يمكن أن تقوم دولة تحترم كرامة الإنسان ما دامت تسجن الناس داخل هويات مغلقة، وترى في كل مختلف خصمًا لله وللشعب وللمستقبل.
إن الطريق إلى يمنٍ عادل لا يبدأ بتغريدات مطلية بالبلاغة، بل يبدأ بالاعتراف العلني بالحق في الاختلاف، والالتزام الصادق بمبادئ العدالة والمواطنة المتساوية.
*كاتب وناشط حقوقي والأمين العام للمجلس الوطني للأقليات في اليمن