Image

ستيفن مارش | الولايات المتحدة لم تعد زعيمة العالم الحر وكندا تستعد للمواجهة

تكشفت خلال الشهرين الماضيين حقيقة مرة يصعب تجرعها، تمثلت في أنه لم يعد من الممكن اعتبار الولايات المتحدة من بين الدول الحرة في العالم. وفيما يشكل هذا التحول بالنسبة إلى أوروبا خسارة عميقة ومؤلمة، ويفرض عليها إعادة تقييم جذرية لأولوياتها، ولا سيما منها جيوشها والأنظمة الاقتصادية. فإنه بالنسبة إلى كندا، فإن فقدان أميركا العاقلة يعد تهديداً وجودياً مباشراً لبقائها على المستوى الوطني، وطعنة لشراكة كانت ركيزة لأطول علاقات سلمية في تاريخ العالم.

لقد نظر الكنديون دوماً إلى الأميركيين باعتبارهم أكثر من مجرد جيران وحلفاء، واعتبروهم أقرباء لهم بحيث يشكلون معهم أسرة واحدة، وأحياناً بالمعنى الحرفي للكلمة. لكننا الآن نواجه الواقع المتمثل في أن أبناء عمومتنا يتآمرون بشكل علني للسيطرة علينا واستعبادنا.

فمنذ أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب عن طموحه ضم كندا إلى الولايات المتحدة لتصبح "الولاية الرقم 51"، دخلت البلاد بشكل أو بآخر في حال تأهب للحرب. وأحدثت تصريحاته شعوراً غير مسبوق بالوحدة الوطنية في كندا، وهو شعور لم نشهده منذ نشوب "الحرب الأهلية الأميركية" الأولى، عندما هدد الانهيار الداخلي الأميركي بالانتشار عبر الحدود، فاستجابت كندا بتوحيد صفوفها من خلال اتحاد قوي بين أبنائها.

وتظهر البلاد في هذه المرحلة وحدة تامة بين قيادتها السياسية ومواطنيها، وتوافقاً كاملاً في الأهداف والاستراتيجية على حد سواء. فمواجهة متنمر تتطلب مرونة لجهة الصمود في مواجهة الضربة الأولى، ومن ثم الرد عليها بحسم، مع الاستعداد لتحمل العواقب. وقد ذهب رئيس وزراء مقاطعة أونتاريو دوغ فورد إلى ما هو أبعد من التدابير الاقتصادية المضادة لجهة فرض تعريفات جمركية مقابلة على الولايات المتحدة، بحيث هدد أيضاً بقطع إمدادات الطاقة الكندية عن منطقة "نيو إنغلاند" الأميركية [منطقة في شمال شرقي الولايات المتحدة، وتتألف من 6 ولايات هي: كونيكتيكت، ماين، ماساتشوستس، نيو هامبشير، رود آيلاند، فيرمونت] قائلاً إنه سيفعل ذلك "بابتسامة على وجهي" على حد تعبيره. وفي الوقت نفسه اتخذت أونتاريو، وهي أكبر مشترٍ للكحول في العالم، موقفاً حاسماً قضى بسحب جميع المنتجات الأميركية من على رفوف متاجرها.

وفي هذا الإطار، لم يعد ممكناً في كندا هذه الأيام شراء مشروب البوربون [نوع من الويسكي يصنع في المقام الأول في الولايات المتحدة، تحديداً في ولاية كنتاكي]. وبدأ كل من المستهلكين الكنديين وحكوماتهم بتغيير عاداتهم الشرائية، فيما يقوم المواطنون بإلغاء عطلاتهم في الولايات المتحدة، ويتركون المنتجات الأميركية على رفوف المتاجر حتى انتهاء مدة صلاحيتها.

بصراحة، لم أتخيل قط أن هذا المستوى القوي من الوحدة الوطنية الذي يظهره الكنديون الآن، كان ليتحقق. فكندا لديها تنوع هائل في سكانها - سواء من حيث العرق أو اللغة - وهم منتشرون على مساحات شاسعة من الأراضي (جزيرة بافن وحدها التي تزيد مساحتها على مساحة بريطانيا وإيرلندا مجتمعتين، لا يقطنها سوى 13 ألف نسمة). وحتى قبل الجنون الأخير الذي أظهره دونالد ترمب، كان رئيس وزرائنا جاستن ترودو يدافع عن فكرة أن كندا هي "أمة تتخطى مفهوم القومية" [بمعنى أن الهوية تتجاوز فكرة الوطنية التقليدية، وتتشكل من ثقافات ولغات وتقاليد متعددة]. وعلى مدى العقد الماضي، انتظمت البلاد في نقد ذاتي مستمر ومناقشات أيديولوجية حول ماضيها. لكن هذه المرحلة انتهت الآن وتلاشت الانقسامات، بحيث يقف "الليبراليون" و"المحافظون" بثبات جنباً إلى جنب.

يشار هنا إلى أن ستيفن هاربر رئيس الوزراء "المحافظ" السابق، وربما الزعيم الأكثر تأييداً للولايات المتحدة في تاريخ كندا، قال إن "على بلادنا أن تكون مستعدة لتحمل أي مستوى من الضرر" من أجل حماية سيادتها. ومن اللافت للنظر أن لوسيان بوشار زعيم الانفصاليين في مقاطعة كيبيك الذي كاد ينجح في إخراجها من الاتحاد الفيدرالي الكندي عام 1995، أعرب بحماسة عن استعداده للقتال دفاعاً عن البلاد. ويمكن القول إن النقطة الوحيدة التي يتفق عليها الجميع، وباقتناع تام، هي أننا لن نصبح أميركيين. والأمر الأكثر إثارة هو أن هناك في تكساس اليوم مشاعر داعمة للانفصال عن الولايات المتحدة مقارنة بمثيلتها في مقاطعة كيبيك، وهي حقيقة لم تكن لتخطر على بال أحد، حتى قبل بضعة أشهر.

لكن كل ما يمكن أن يحدث في المستقبل يصعب تصوره عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة. فهذه الدولة التي عرفناها وأعجبنا بها ذات يوم، قد انتهت إلى غير رجعة، ولن تعود إلى ما كانت عليه، أقله بالنسبة إلى جيلنا. لم يعد ممكناً في المقابل الاعتماد على الأميركيين كحلفاء. فإذا ما خضنا حروباً إلى جانبهم كما فعل البريطانيون، من المرجح أن نرى جنودنا الذين يسقطون في المعارك معهم يتعرضون للسخرية. كما لا يمكن الوثوق بهم كشركاء. فبمجرد أن تنتهي مصالحهم، سيتخلون عن أي اتفاق تجاري تماماً كما يتخلصون من قشور الفاكهة. أما الضمانات الأمنية التي يقدمونها، فلا قيمة لها ولا تساوي الورق الذي كتبت عليه. إن ما نحتاج إليه الآن هو بلورة ضمانات أمنية تحمينا من الولايات المتحدة نفسها.

لا شك في أن الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة من العالم الحر، سيعيد تشكيل توازن القوى الجيوسياسي برمته على مستوى العالم. ونتيجة لذلك، ستجد كندا نفسها، بحكم الضرورة، أقرب إلى أوروبا وبريطانيا، باعتبارهما شريكين أكثر انسجاماً مع قيمنا الأساس. والواقع أن ملامح هذا التحول قد بدأت تتبلور بالفعل. فالكنديون، الذين لم يولوا العائلة المالكة اهتماماً كبيراً في العادة، وكانوا ينظرون إلى صورة الملك تشارلز على عملتهم باعتبارها مصدر إحراج جرى تقبله، باتوا اليوم يرونه شخصية ذات أهمية متزايدة بصفته رئيساً للدولة. كما أن ظهور تشارلز أخيراً في مناسبات عامة متوشحاً بأوسمة وميداليات عسكرية كندية، لم يمر مرور الكرام في نظر الكنديين. قد تكون الولايات المتحدة بمثابة عائلة لنا، إلا أن العالم الحر هو وطننا الحقيقي. وسيجب علينا جميعاً الاعتماد على بعضنا بعضاً.

من هذا المنطلق يتملك الكنديين شعور غريب بالثقة وهم يقتربون من خوض هذه المواجهة غير المتكافئة التي تشبه المواجهة بين داوود وجالوت. فنحن ندرك تماماً أننا سنعاني، لكننا نعلم أيضاً أنها معاناة لا بد منها. الخبر السيئ هو أن الولايات المتحدة تتداعى، لكنه أيضاً الجانب الإيجابي، بما أنها أصبحت خصماً لنا. ومع مرور كل يوم، تزداد ضعفاً على المسرح العالمي. إن الأميركيين يدمرون اقتصادهم بأيديهم. ويتسببون بأزمة غلاء معيشة داخل حدودهم. لقد فككوا خدماتهم المدنية من أجل توفير مدخرات قد لا تصل حتى إلى 5 مليارات دولار. كذلك فإنهم يهدمون بنيتهم العلمية ويقوضون نظامهم التعليمي. وقد ألحقوا أضراراً جسيمة بـ"مكتب التحقيقات الفيدرالي" "أف بي آي" و"وكالة الاستخبارات المركزية" "سي آي أي". ويفككون مؤسساتهم الوطنية الواحدة تلو الأخرى. أما على مستوى القرارات السياسية المدمرة للذات، فإنهم يواجهون في هذه المرحلة ​أزمة تعادل "بريكست" (الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي) بشكل أسبوعي.

أخيراً يمكن القول إن الشهرين الأخيرين لم يكونا سوى بداية فوضى أعظم مقبلة. فالتهديدات التي تتعرض لها السيادة الوطنية غالباً ما تؤدي إلى وضوح في الرؤية وتدفع إلى التركيز على الأولويات. والولايات المتحدة اليوم باتت أشبه بنجم يحتضر. وعندما تموت النجوم فإنها إما أن تنفجر أو تنهار على نفسها. وفي كلتا الحالتين، عليك البقاء بعيداً من الكارثة ما أمكن. ويتعين على كندا كما على بقية دول العالم، أن تسارع إلى تحييد نفسها وأن تنأى بشعوبها عن تداعياتها قبل فوات الأوان.