الزوكا .. إرادة صلبة وتضحية خالدة
عبر التاريخ تتشكل بين الأفراد والقادة ثنائيات نادرة، سماتها الوفاء والصداقة والإخلاص واتخاذ القرارات، وتخليد مرحلة جمعتهما في أمور عديدة متعلقة بالسياسة والأدب والسلطة، وقد كان هذا الأمر ينطبق على الراحلين الشهيديـن علي عبد الله صالح وعارف عوض الزوكا.
فلقد ضرب الشهيد والمناضل الوطني المؤتمري، الوحدوي الأستاذ/ عارف الزوكا الأمين العام السابق للمؤتمر الشعبي العام مثالًا نادرًا في الوفاء والتضحية والإخلاص والكرم، بعد أن جاد بروحه ودمه وحياته إلى جوار الزعيم الشهيد الخالد علي عبدالله صالح، رحمهما الله، رافضًا كل المغريات غير مستسلم للرغبات ليترك لنا واحدًا من أبرز المواقف التاريخية الشجاعة.
إن الحديث عن مسيرة الشهيد البطل ابن شبوة واليمن كلها عارف الزوكا سيظل غير مكتمل، اذ لن تسعف مفردات اللغة كلها أي كاتب محب أو صديق أو زميل لشهيدنا الأسمى بإنصافه، والتحليق في مدارات هذا العالم لما تمتع به طيلة مشوار حياته، من قيم الشهامة والوفاء والإقدام النادر في سفر الإنسانية وتاريخنا المعاصر.
لقد شَكَّل موقفه من الأحداث، واخلاصه للوطن وللمؤتمر الشعبي ولرئيسه عنوانًا فريدًا ومضيئًا، ومدرسة تتعلم منها الأجيال اللاحقة معاني التضحية والفداء والعطاء، والتي لم تُبنَ على مصلحة زائلة او منفعة، بل كانت تضحية تعيد إلى الأذهان بعض قصص وأحداث التاريخ المماثلة.
لأن قصة مثل التي ربطت بين صالح والزوكا جسَّدت صورة عجيبة من صور العزة والكبرياء أمام تغطرس الجبناء واللصوص الذين تمرسوا على الغدر والخيانة والخسة وسفك الدماء عبر التاريخ من دون اية مراعاة لمعاني الأخلاق والنبل وواقع الناس من حولهم، فلطالما كان مشروعهم قائم على الدم والموت والفوضى والهدم.
هكذا هم العظماء دومًا حينما يواجهون أقدارهم ومصائرهم لينشدوا سوية، إما حياة تسر الصديق، او عز و شهادة تغيظ العدا، من دون ذل واستعباد، مثلما حاول أن يرسمها غزاة الداخل الرجعيين؛ لأنه من المستحيل أن يخضع ويستجدي العيش من ألِف الشموخ والكرامة وظل مرفوع الرأس أمام شعبه وأهله وعشيرته.
الدرس الذي تم تقديمه لم يكن سهلًا لكنه كان متاحًا للجميع كي ينهلوا منه ويتعلموا منه معنى التضحية بالنفس، لكي تكون قويًا في لحظة غرور المعتدين، أن تنتصر حين تملك إرادة في مقابل وحوش مدججة ليس بالسلاح فحسب، وإنما بالعنصرية البغيضة والنوايا السيئة والشحن المذهبي والطائفي، ومعبأة بالأحقاد والضغائن.
كان استشهادهما درس كبير من قامتين وهامتين عاليتين في السياسة وصنع القرار، لا يمكن محوهما بسيل من التلفيقات والأخبار الزائفة والأقاويل الكاذبة عبر إعلام مخدوش الحياء.
إنني اليوم اكتب عن شخصية قل نظيرها في الحياة والعمل والعلاقات، اتحدث عن كبير في حياته ومماته تشرفت برفقته وزاملته لسنوات طوال وخبرته عن كثب، فوجدت معدنه ينتمي لطينة وخامة العمالقة الفرسان الحميرين اليمنيين الإنسانيين الأصيلين.
إن عارف الزوكا شخصية من المبكر الإلمام الكامل بما كان عليه من سجايا ومناقب وسيرة عطرة ،كان حقًا شخصية نادرة لا تدري معها من أين تبدأ وأين تنتهي وكيف يمكن الأخذ بزمام ما كان عليه على الصعيد الشخصي والمجتمعي.
إذا ما تحدثت عن الروح القيادية فلن تفيه حقه، وإن كتبت عن البساطة والتواضع والصبر والحنكة والسمو والوطنية والأخلاق العالية، فلن تعطيه استحقاقه أيضًا. شهيدنا الكبير والخالد عارف الزوكا تعلمنا منه الكثير طوال مسيرته الحافلة التي تشرفنا بأننا كنا جزءًا منها وأكثر قربًا منه، لذلك فإن عظم خسارة غيابه عن مشهدنا الوطني والمؤتمري أكبر من أن نختصرها في مقالة سريعة مثل هذه.
أقول وبصدق : لقد أخلص الشهيد الزوكا لتنظيمه ومبادئه ووطنه، ومن المفيد أن نشير هنا إلى حقيقة أنه كان صاحب فكرة ترديد شعار "بالروح بالدم نفديك يا يمن"، تمامًا كما كان وفيًا مخلصًا للوحدة المباركة التي تعمدت بالدماء الزكية الطاهرة.
عاش ومات حرًا، كريمًا، أبيًا، ومتصالحًا مع نفسه، ولم يهاب الموت الذي طوقه من كل جانب لأنه آمن بأن الحياة كرامة وعزة وشرف وخلود، فعاش حرًا، ومات شامخًا غير مكترث بغبار التاريخ مثل الذين اعتادوا العيش على موائد السحت ونكران الجميل والتشبث بالخرافة.
نعم، لقد عشت حرًا عزيزًا شهمًا كريمًا، نلت الشهادة بشجاعة ووفاء وإقدام نادور، وكنت مدافعًا قويًا عن الوطن، حينما انتفضت بكل عزيمة ضد العدوان الغاشم، وكنت فارسًا نبيلًا في كل جولات المفاوضات، وفي تحشيد المؤتمريين وأنصارهم، لمواجهة عدوان الخارج والداخل، كما كنت موجهًا لكل الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين لتكون قضيتهم الأساسية هي كشف جرائم الحوثي والدفاع عن الوطن ومحاربة الفساد والتهميش والإقصاء وكشف زيف المليشيا.
كما كنت مخلصًا مع كل مؤتمري محب للوطن والتنظيم والمبادئ، وستبقى نبراسًا ومثالًا في الوفاء والعطاء والشجاعة والفداء.
رحمك الله أبو عوض وتغمدك بواسع رحمته.