لا مستقبل لليمن ببقاء السلالية السياسية

قبل 21 ساعة و 26 دقيقة

ما أزال أتذكر أن السبب الذي دفع المستشرقة الفرنسية الطبيبة كلوديان فايا أن تختار اليمن كوجهة لرحلتها العلمية في منتصف القرن الماضي رغم التحذيرات والاعتراضات والنصائح التي سيقت إليها بعدم السفر إلى اليمن، يعود -أي السبب- حد ما ذكرت في كتابها الشهير "كنت طبيبة في اليمن"- إلي أن اليمن هو البلد الوحيد الباقي ليس في الشرق الأوسط بل في العالم كله محتفظاً بمظاهر حياة القرون الوسطى، وأن الآثار البدائية للحياة لم تعد موجودة غير في ذلك البلد.

تلك الشهادة عزيزي القارئ ليست إلاَّ فيضاً من غيض للواقع البائس التعيس الذي فرضته أسر الأئمة كلما عادت لحكم اليمن.
شهادة تؤكد أن حكم بيت حميد الدين رغم أنها حكمت في القرن العشرين الذي يعد قرن الحداثة والتطورات الكبيرة إلا أنها عملت كل ما بوسعها ليبقى اليمن خارج العصر والتاريخ رازحا عند حقب العصور الوسطى.
بلاد حتى عام 1962 لم يوجد فيها طبيبًا يمنيًا واحدًا، بل لا يوجد فيها مدرسًا واحدًا تخرَّج من كلية تربية، وقس على ذلك بقية مجالات الحياة.
كثيرة هي اللعنات التي أصابت هذا البلد، غير أن لعنة الهادوية هي الأسوأ، ويكمن خطرها في أنها استطاعت تكرار انتاج متواليات عودتها بين قرن وآخر.
وأحياناً تعود من جديد ولمّا يكتمل قرناً على تخلص اليمنيين منها، وأكبر برهان على هذا الطرح أن دولة الجمهورية لم تبق سوى نصف قرن (٥٢ عاماً)فإذا بالسلالة تعود من جديد بصورتها الحوثية المقيتة التي دأبت متذ انقلابها على الجمهورية في ٢١سبتمبر ٢٠١٤م على إغراق اليمن في بحار من الدم، والفوضى كحال اسلافها الأئمة .

في كل مرة تنقلب فيها السلالة الكهنوثية على الحكم تعمل على طمس ما كانت قد شرعت في تحقيقه دولة ما.
ما حققته الدولة الرسولية خلال حكمها من بناء وتطور تعليمي وعمراني، وشق طرقات، وسواقي الماء بجانب طرق السير، والاستقرار الاجتماعي لليمن دمرته أُسرة الائمة.
وما انجزته دولة (الصليحيين)، وغيرها كالنجاحيه والطاهريين كانت دولة الأئمة تقوم بتدميره.
لا يوجد اي معلمٍ عمراني يتحدث عن الأئمة في اليمن شرعوا يوماً في بناء هذا البلد.
بل على العكس كلما يعودون يدمرون ما بنته دولة من الدول التي تعاقبت على حكم اليمن.. يدمرون الطرق، ودور ومدارس العلم، وحتى السُبل الخاصة بالمياه بجانب طرق القوافل يدمرونها.

لماذا نستدل بأدلة غير منظورة؟
لماذا نذهب بعيداً بالاستدلال على حقد وهمجية هذه السلالة الكهنوثية وأمام أعيننا ما لا يحصى من الأمثلة تؤكد كلها على التدمير، والتخريب، وإزالة كل ما حققته الجمهورية من انجازات، ومكاسب على مدى نصف قرن شمالاً وجنوباً؟.. لم تستثنِ جانباً من الجوانب أو مجالاً أو قطاعاً.
الحوثية دمرت كل شيء جميل كان قد تحقق.
العلاقات الاجتماعية التي كانت قد أخذت تتشكل على نحو إيجابي، وتسير صوب القيول ببعضها، وفي طريقها للتعايش، والشراكة، وصولاً إلى بناء مجتمع العلاقات المتكافئة.
جاءت الحوثية، ومزقت المجتمع، ودمرت العلاقات الاجتماعية، وأقامت على أطلالها مجتمعات متشظية.

التعليم الذي كان قد شرع يسير في مسارات حديثة، وينحو في اتجاه تحقيق الاستنارة، والتغيير، ومتطلبات التنمية، والتطوير والتحديث، جاءت الحوثية، وضربته في مقتل، وعملت كل ما بوسعها لتخريب المناهح والمقررات التعليمية، ونسفت الخطط والمشاريع المرسومة للنهوض بالتعليم بكافة مستوياته لأنها تدرك أنها لا يمكنها البقاء والاستمرار إلا بتدمير العقل، وتزييف الوعي عبر اشاعة مناهجها الكهنوثية، وأفكارها السلالية.

الحوثية دمرت كل مظاهر التجارة والاقتصاد.. لم يعد يوجد اقتصاد في البلاد، لا اقتصاد دولة ولا اقتصاد خاص ولا اقتصاد مختلط وتبع ذلك ارتفاع معدل البطالة إلى حد مخيف ينذر باتساع دوائر المشاكل الناجمة عن ذلك من فقر وامراض وتخلف وجرائم ووووو الخ.

مجال الصحة هو الآخر أُصيب بالدمار والشلل التام، ولم يعد يوجد في اليمن ما يعرف بالخدمات الصحية، وحتى الخدمات الخاصة العلاجية لا رقيب عليها ولا حسيب ولا يقوى عليها إلاَّ تجار الحرب، والميسوريين، وكل هذا الضياع الذي تغرق فية البلاد ليس إلا الغاية الكبيرة التي تسعى الحوثية إلى تكريسها من قبيل الانتقام من الشعب اليمني الذي حاول اقامة نظاماً جمهورياً على حساب التخلص من حكم أسر الأئمة.
انتقام ممنهج تسعى من خلاله الحوثية أن ترسخ فكرة أن حكم الأئمة هو قدر يلازم اليمنيين، ولا يمكنهم تجنبه.

لا يهم هذه السلالة إن تجمدت اليمن، وتحجرت في أَسْرِ حكم الأئمة، ولا يهمها أن تخرج اليمن من التاريخ، ويكتب لها أن تبقى متحفاً للعصور السحيقة، والأثر الوحيد الباقي لما كانت عليه الحياة القروسطية.
لا يهم الحوثية أي شيء مما سبق بقدر ما يهمها أن تبقى الأوضاع الذي عليه اليمن، اليوم دون انفراج أو خروج منها لأنها تعلم علم اليقين أنها لا يمكن أن تستمر في حياة السلم، والسلام، لأن الانفراج وانتهاء هذه الظروف المآساوية لن يكون في صالح مشروعها القديم-الجديد، فهذه جماعة أو عصابة أو حركة تاريخية لا تنمو إلا في مناخات الصراعات، والأزمات ولا تستمر إلا بظروف الحرب.
منذ أكثر من عشرة قرون، وكل محاولات اليمنيين لاستعادة حضاراتهم القديمة تذهب هباءً منثورا، بعد كل محاولة تنقلب سريعا أسر الأئمة عليها وتجهضها.

إذن علينا أن ندرك أن ذلك ليس قدراً ملازماً لنا.. إن المشاريع المتخلفة لا يمكن أن تكون قدراً ملازماً محيطاً بأي شعب أو مجتمع.. وعلينا أن ندرك الأسباب التي تقود دائماً إلى إعادة هذه السلالة انتاج وجودها الكارثي.
علينا الاجابة على السؤال: لماذا هذه السلالة تعود من جديد، وتطيح بكل أحلامنا وطموحاتنا في التغيير، وبناء الدولة التي تتسع لكل اليمنيين؟
لا أعتقد اننا لا نعرف الأسباب التي بعضها داخلية، أي أننا نحن من يوالي خلقها، وبعضها أسبابا خارجية غير أنها ليست خطيرة كالأسباب الداخلية.. لماذا؟
لإن الخارج لا يمكن أن يكون قوياً إلاَّ بمقدار ضعف الداخل.
باختصار السبب الرئيس يكمن فينا نحن اليمنيين أولاً وقبل كل شيء.. ولهذا يجب علينا أن نتصالح مع متطلبات المستقبل.
يجب أن نؤمن بشروط العيش في هذه حضارة اليوم..
هنالك فقط نستطيع القضاء نهائياً على كل ممكنات، وأسباب عودة السلالة الهادوية لحكم اليمن في المستقبل.
هنالك فقط سيكون في مقدورنا الانبعاث من جديد لملاحقة عيش الحياة بشروطها الصحيحة.

ختاماٌ وباختصار، أؤكد أنه لم يعرف شعبنا أي استمرار أو انجاز إيجابي في فترات حكم أُسر الأئمة، ولن يكون له حاضرا أو مستقبلا مع بقاء هذه الأُسر السلالية السياسية؛ فمن لم يقدم شيئا على مدى إحدى عشرة قرنا لن يقدم في المستقبل إلا الضلال، والظلام، والظلم، والفوضى، وضياع ما تبقى لنا من ممكنات شروط الحياة فيما تبقى منها.
ذلك ما ينبغي أن ندركه، ونعيه، ونعمل على تجاوزه، والخلاص منه خلاصاً مطلقا إذا ما أردنا أن نعيش ونحيا مستقبلا على غير الذي عاشه أسلافنا، ونعيشه اليوم بكل كوارثه المريرة.