حقائق لا تُنسى في الإدارة والقضاء
اكتسبت اليمن تجارب ملهمة وناجحة خلال العقود الماضية، في عدد من المجالات الحيوية سواءً كانت اقتصادية أو اجتماعية أوثقافية أوسياسية أو تشريعية، تستحق منا التوقف عندها واستذكارها باعتزاز .
عقب قيام ثورتي 26 سبتمبر و 14 أكتوبر بدأت الحياة بالتغير والتطور تدريجيًا، وإذا بدأنا من ثمانينيات القرن الماضي، وأخذنا مجال القضاء والإدارة على سبيل المثال أو مجالات أخرى فقد كانت فاعلة نتيجة لاستراتيجية منظمة قادها مجموعة من الرواد الأوائل.
وقد تمثل بنماذج احدثت نقلة نوعية في الأداء الإداري للدولة ونظام الحكم، حيث شكَّلا منعطفًا إيجابيًا فتح الأفق أمام نهضة إدارية واسعة كان الهدف منها تحسين وتطوير كفاءة الإدارة.
ففي نطاق القضاء تم فَتح المجال أمام خريجي كليتي الشريعة والقانون والحقوق، ليلجوا هذا المسلك، وحاز كثير من المتميزين منهم على فرص الالتحاق بالمعهد العالي للقضاء للدراسات العليا لمدة عامين في العلوم الشرعية والقوانين الخاصة، في التوظيف في سلك القضاء بعموم المحاكم والنيابات العامة.
هذه التجربة الإدارية الناجحة فسحت المجال للشباب المبرزين في تبؤُّء أعلى المناصب، وكان الكثير منهم مثال للنزاهة وتحقيق العدالة، كما أن هذه التجربة تجاوزت تقليد حصر القضاء في أسر وبيوت معينة ومحدودة. فلم تعد هذه الوظائف حكرًا على شريحة معينة بل خضعت التعيينات في تلك المناصب فقط لمعايير الكفاءة والجدارة.
أما التجربة الثانية تمثّلت في انتقاء مجموعة من الضباط المتميزين من خريجي كلية الشرطة، وهم أيضًا في نفس الوقت تحصلوا على ليسانس الحقوق، بإلحاقهم بدبلوم عالٍ للإدارة في المعهد الوطني للعلوم الإدارية، لغرض دراستهم مناهج الإدارة والمالية العامة، وتعيينهم مدراء مديريات في عموم الجمهورية، وقد احدثوا تغييرًا كبيرًا في مناصب مدراء المديريات التي تحوّلت من مهمات أمنية إلى مهام إدارية وتنموية.
واحدثت تغييرًا كبيرًا في حُسن التعامل مع المواطنين ومراعاة متطلبات حقوق الإنسان، وحظيت التجربة باهتمام وعناية من الرئيس الراحل الشهيد علي عبدالله صالح ومتابعته المستمرة لهؤلاء الشباب، ورعايته ودعمه لهم.
كما خضع هؤلاء المدراء من جيل الشباب للتقييم من قبل محافظي المحافظات، وما زلتُ أتذكر أحد التقارير التي قام برفعها أحدهم إلى رئاسة الجمهورية، تعطى تقييمًا سريًا لمدراء المديريات في اطار محافظته، ووزع المدراء إلى ثلاثة مستويات، الأول وهم المدراء المتميزون والذين يستحقون أن يتم ترفيعهم في وظائف وكلاء مساعدين نتيجة لنجاحهم الإداري وقدراتهم الشخصية وكفاءتهم، وتنبأ لهم أن يكونوا قادةفي المستقبل كمحافظين، والمستوى الثاني يستحقون مديريات أكبر، لأنهم أثبتوا كفاءتهم.
اما المستوى الثالث فكان التقييم بأنهم لا يصلحون لهذه المناصب وفق معايير تقييم الأداء، وينصح بنقلهم إلى وظائف أخرى في الشرطة والمرور وغيرها من المجالات المناسبة لطبيعة عملهم وإمكانياتهم.
أتذكر أنه تم بالفعل أن غالبية من تم تقييمهم من المستوى الأول والثاني أصبحوا محافظين ووكلاء لعدة محافظات وثبت نجاحهم، وأن لديهم القدرة والكفاءة، فيما التجربة الثالثة كانت اختيار الأوائل والمتميزين من خريجي كلية الشرطة وتعيينهم في وظائف هامة في الرئاسة والأجهزة الأمنية بهدف تحديث وتطوير الأداء، وحقن دماء جديدة شابه طموحة في مفاصل الدولة، ممن تسلحوا بالعلم، والكفاءة والقابلية على التطور.
كما تجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الذين تم اختيارهم لم يكن هذا الترشيح يخضع للاعتبارات الحزبية أو المناطقية أو المذهبية، وإنما كانوا من مختلف المحافظات، وشكّل تعيينهم في تلك المواقع حافزًا لزملائهم على التفوق والتحصيل
العلمي الجيد ، كما خلق أيضًا منافسة شريفة بين أوساطهم، وكان الأمر بمثابة تطبيق لمبدأ تكافؤ الفرص، وعدم التمييز، والعدالة، وتشبيبًا للوظيفة، وإفساح المجال أمام جيل الثورة والجمهورية للمساهمة في البناء والتنمية والتطوير الإداري.
من المؤسف، أنه و بدلًا من تطوير تلك التجارب الناجحة وتنميتها، والأخذ بالأفضل والبناء عليها بالاستفادة منها فإننا نتراجع للخلف للأسف، ووصل الأمر إلى حد التقاسم والعودة إلى أساليب الوساطات وتقديم الولاءات على الكفاءة في تولي الوظيفة العامة، والتعيين على أساس الوجاهة والمحسوبية.
اما التعيينات في الوقت الحالي فهي خارجة عن اطار القوانين، ومعايير الكفاءة والجدارة وانحصرت في أصحاب الولاء، واستندت إلى معايير لا تمت لاشتراطات الوظيفة العامة بأي صلة.
ولهذا السبب تراجع الأداء الإداري وفقًا لعمل ممنهج من أجل تدمير كل الإصلاحات التي أُنجزت خلال الفترة الماضية، والانتقام من أصحاب الخبرة والكفاءة في مختلف المجالات، وتهميشهم واستبعادهم، مما سبب احباط وشعور بالغبن والضيم للشباب الطامح في غد أفضل.
ولذا يقال دائماً إذا أردت أن تهدم بلد، فما عليك إلا تعيين الأسوأ والرديء وعندها ستنهار الدولة في غمضة عين وتنتكس مختلف مجالات التنمية، وهذا يحفزنا دوماً للعمل من أجل استعادة هذه المنظومات التي نحتاج إليها لإقامة بلد تحكمه التخصصات وأصحاب الخبرة ممن لديهم استعداد كامل للتضحية في سبيل وطن آمن مزدهر.