الأئمة والتحطيم التاريخي لليمنيين
عندما نقارن بين الإنسان اليمني اليوم مع الذي كان عليه قبل 1500 سنة او 2000 سنة.
يتضح أن اليمني اليوم يعيش حالات الفقر المدقع، والتسول عند أبواب جيرانه وأشقائه العرب، رازحاً تحت ظروف الجهل، والبلادة، والتخلف الحضاري الكبير.
اليمني ما قبل آلفي سنة صنع حضارة يصعب شطب وجودها من سجلات التاريخ... حضارة تحكي عنها وتؤكدها النقوش المسندية، حيث تمكن
اليمني القديم من كتابة وتدوين حضارته بهذه الطريقة على أحجار المرمر، او أحجار البلق الأبيض.
كثيرة هي الأسباب التي ـ لا يتسع المقام في هذا المقال لذكرها ـ استمرت تعبث بالإنسان اليمني، وتستنزف طاقاته الذهنية والنفسية والعقلية والاجتماعية والثقافية، والاقتصادية وصولاً إلى تدميره، وإقعاده عن الانبعاث لاستئناف ومواصلة بناء حضارته المغدورة. أقوى وأخطر تلك الأسباب تكمن في استمرار وقوع اليمن تحت حكم الأئمة بين حين وآخر.
خلال أكثر من عشرة قرون مضت لاحت عدة فرص لليمنيين كي يستعيدوا مجدهم الحضاري الذي أفل بالاحتلال الحبشي، فالاحتلال الفارسي، فوقوع اليمن تحت ولاة الدول الإسلامية المتعاقبة التي كانت كلما ضعفت قوتها وزاد فساد وظلم ولاتها باليمن يهب اليمنيون لإقامة دولة يمنية كالدول الزيادية والصليحية، والنجاحية، والرسولية، وغيرها من الدول التي سرعان ما تنتهي بعودة دولة الأئمة .
وحتى في الحالات التي كانت اليمن تقع تحت حكم دول كالفاطمية، والأيوبية والعثمانية يرثها عند خروجها من اليمن الأئمة ليس من قبيل المقاومة، والنضال والكفاح ضد تلك الدول التي سيطرت على اليمن، وإنما من قبيل أن أُسر الأئمة في اليمن ظلت على الدوام تحافظ على كيانها موحداً في إنتظار فرصة الإنقضاض على الحكم عقب سقوط اي دولة إسلامية، وفي وقت يكون اليمنيون منهكيين من الحروب، ويعانون من آثارها فقراً، وجوعاً، وأمراضاً، وضعفاً يصعب معها أن يقاوموا او ينازعوا الأئمة على الحكم.
وما أن يؤول الأمر إلى الأئمة حتى يبادروا بدورهم لتثبيت حكمهم عبر انتهاجهم أساليب التنكيل والقمع والقضاء على كل مخالفيهم، بل والقضاء على كل من قد يرون فيه مشروعا لزعيم يمني قادم.
لا يوجد في تاريخ حكم الأئمة لليمن أية مظاهر أو أثار شاهدة على أنهم عملوا على بعث الحضارة اليمنية من جديد او سعوا لاستعادتها.. لا يوجد أي أثر يمكن أن نراه ماثلاً أمام الأعين على أنه مخلف تاريخي مجيد يقول إنه من إرثهم.. لا يوجد سد واحد شُيِدَ بأي فترة من فترات حكم الأئمة لليمن.. لا توجد مدينة واحدة جديدة اختطوها.
لا توجد مدينة يمنية قديمة قاموا بتوسيعها وتطويرها.
حتى العاصمة صنعاء ظلت كما هي داخل السور المعروف اليوم بمدينة صنعاء القديمة، وما ظهر من أحياء، ومبان خارج سور المدينة القديم عند اندلاع ثورة سبتمبر، وقيام الجمهورية لم يكن إلا من بقايا العثمانيين الذين سعوا إلى التوسع خارج سور صنعاء القديمة، وكذلك بقية مدن اليمن.
لا توجد مدارس ولا معاهد تشهد على أنها من معالم حكم دول الأئمة... لا توجد اي معالم تاريخية تحكي أنها إرثاً لهم.
كل فترات حكم الأئمة كانت حروب ضد اليمنيين او كما يطلق عليها الكاتب الصحافي المبدع بلال الطيب "حروب العصيد".
إن ابرز ما تتسم به دول الأئمة في كل الفترات التي عادت فيها لحكم اليمن أنها حولت الإنسان اليمني ـ المتسم بصفات التطلع والاستعدادات المتعددة للتحضر والتطور والمنافسة الحضارية ـ إلى حطام.
نعم، حوّلت الإنسان اليمني إلى حطام، سيستغرق وقتا طويلاً حتى يتمكن من ترميم ذاته لكي يستأنف مشروعه الآزلي في بناء حضارته المغدورة.
يجب على اليمنيين ان يدركوا الطرق التي دأبت الأسر الهادوية على اعتيادها في إنتاج وجودها، والتركيز على طريقة تحطيم الإنسان اليمني تحطيمًا لا يمكنه من إعادة ترميم ذاته وكيانه على النحو الذي يجب ويهيئه للقيام بما تمليه عليه مقتضيات الثبات والصمود في وجه الأعاصير التي تستهدف وجوده ومصيره، وحقه في بناء دولة مدنية قوية وحقيقية لا تسقط أمام آية تحديات أكانت خارجية او داخلية من قبل جماعة او عصابة فاشستية طائفية او مذاهبية او عنصرية... الخ.
تحطيم الإنسان اليمني هو ما تسعى إليه اليوم هذه الجماعة الممتدة بتكوينها الإيديولوجي، والتنظيمي إلى مشروع حكم الأئمة، وكل ممارساتها التي تمظهرت خلال السنوات العشر الماضية في العاصمة صنعاء، وكل مناطق سيطرتها تؤكد على أنها تعتمد طريقة التحطيم للإنسان اليمني، تحطيمه جسدياً، وتحطيمه ذهنياً، وتحطيمه اخلاقياً، وتحطيم كل احلامه وطموحاته في ألا يعيش الحياة بشروط العصر، بل ألا يعيش الحياة الكريمة بأبسط مطالبها.
وتدأب هذه الجماعة لمواصلة هذا التحطيم بكل ممارساتها الإرهابية والاجرامية بإشاعة الظلم، وإتباع سياسات التجهيل، والإفقار، والإفساد الاخلاقي، لماذا؟،
لأنها تدرك أن الإنسان اليمني كان قد أعاد ترميم ذاته على مدى العقود الماضية التي تلت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر.
نعم، ثورة 26 سبتمبر في الوقت الذي اعادت فيه بناء الإنسان اليمني استطاعت ايضاً توليد أجيال جديدة هي أجيال ثورتي سبتمبر واكتوبر ومايو الخالد.
أجيال لا يمكن ان تقبل العيش تحت سيطرة عصابة جديدة فاشستية سلالية خاصة وانها أسوأ من سابقاتها التي حكمت اليمن في كونها عصابة عابرة الولاء إلى ما وراء وخلف الوطن بانتمائها إلى المشروع الصفوي الإيراني.
لهذا ليس غريباً ما نراه اليوم من سفور العدوانية على كل ما يظهر أو يمت بصلة لاحتفاء اليمنيين بالذكرى الـ 62 لثورة الـ 26 من سبتمبر، حيث كشرت الجماعة عن أنيابها، ووضعت خططها لقمع كل من يحاول الاحتفاء بالمناسبة ظناً أنها بذلك تستطيع طمس سبتمبر العظيم من الوجود، والتاريخ متناسية أن سبتمبر خالد في وجداننا وفي الذاكرة الوطنية كأبرز حدث في كل تاريخ اليمنيين.
أخيرًا.. وعودة على ذي بدء أكرر أن الإنسان اليمني إذا ما أراد أن يعرف السبب الرئيس الذي جعله يخرج من داخل دائرة الحضارة الإنسانية بعد ان كان يعيش داخلها في وقت مبكر من ظهورها يعزى إلى هذه العصابة السلالية التي لم تدخر جهدها في تحطيمه وإخراجه إلى هامش الحياة.
وقد آن الأوان لأن ندرك جميعنا هذه الحقيقة كي نعمل معاً على مجابهتها، وإنهاء مشروعها، وعدم السماح لها بأن تعيد إنتاج ذاتها مستقبلاً.
يجب ان تتوقف هذه المهزلة التاريخية من وفي قادم حياة اليمنيين الذين هم وحدهم من يتحتم عليهم الاضطلاع بهكذا مهمة تاريخية كبيرة تضع حدًا لاستحالة أن تقوى في المستقبل أُسر الأئمة من إعادة إنتاج وجودها في يمننا الذي يصعب عليه أن يستعيد مكانته الحضارية المُرحلة منذ أكثر من 15 قرنًا غير بالقضاء على ممكنات هذه العصابة في إنتاج وجودها كما أشرت اعلاه قضاءً نهائياً.