من ذكرياتي بالزنزانة رقم "23"
كنتُ قد قررت بعد ضغوطات الأصدقاء الأعزاء تأجيل الكتابة عن ذكرياتي بالسجن وبالزنزانة الانفرادية الرهيبة رقم (٢٣) بسجن الأمن والمخابرات بصنعاء ، إلى أجل غير مسمى، ولكن استفزني ما قرأته بصفحة الرفيق العزيز المناضل أحمد سيف حاشد وما نشره بصفحته الليلة عن الأستاذ الجليل و التربوي القدير السجين المظلوم مجيب المخلافي ، القابع بسجن الأمن والمخابرات منذ قرابة سنة بتهم كيدية ومفبركة..
وانحيازًا لصوت ضميري، سوف أكتب ما تسعفني به الذاكرة عن ذكرياتي معه بالزنزانة الانفرادية رقم (٢٣) التى كنت قابع بها وكان الى جواري بالزنزانة الانفرادية رقم (٢١) ..
زُج بي بالزنزانة الانفرادية بتاريخ ٢ يناير ٢٠٢٤م ، وكان أول من تعرفت عليه من السجناء هو الأستاذ مجيب المخلافي. كان عزوتي وأنسى بتلك الأيام الموحشة السوداء الكئيبة المظلمة بحياتي. كنا نسترق اللحظات وانشغال السجانين ونتبادل الاحاديث خلسة كلما سنحت الفرصة بذلك ،و كان يبوح لي بشجاعة عن تفاصيل التهم وسبب سجنه هو ورفاقه التربويين..
كنت كلما ضاقت بي الدنيا وشعرتُ بروحي تكاد تخرج من أحشائي من وحشة وبؤس الزنزانة الانفرادية ، يواسيني ويشد من أزري، ويصبرني ويقول لي: "اصبر يا قاضي، وما صبرك إلا باالله ، عاد المراحل طوال، كم لك هنا؟، عادك قليل، انا قبلك بتسعين يومًا ، لي بالسجن الانفرادي هنا ثلاثة اشهر ، ومن دخل هنا اقل مدة يقضيها خمسة إلى سته أشهر ، الذي كان قبلك جلس خمسة أشهر ،تصلّب وتجلّد" ..
وكنتُ كلما ضقتُ وشعرتُ بطاوي الروح ، أخرّج رأسي من وسط شاقوص باب الزنزانة الانفرادية وأناديه استاذ مجيب كيف حالك ، وما أخبارك؟، أنا ضيق، تعبت، ويرد عليا: استغفر الله واقرأ القرآن الكريم وصلي ، احنا هنا بمحنة وابتلاء، ساقنا سوء حظنا إلى هنا ، انا استاذ تربوي بديوان عام وزارة التربية والتعليم خدمت الوطن بالتربية ٢٣ سنة وآخرتها كانت مكافأة نهاية الخدمة أن زجّوا بي بالسجن ، وعمري ما عرفت السجن" ، قلت له: ما هي تهمتك ايش عملت؟ ، قال: "كنت أعمل تبع منظمة دولية تشتغل بتعليم الناشئة ومرخّص لها من هنا من صنعاء ، والآن يلفقوا لنا تهم ان احنا عملاء للخارج لأننا عملنا مع المنظمة تلك وهي مرخّص لها، واضطرينا للعمل معها بسبب انقطاع المرتبات".
كانت الزيارة والاتصال بأسرتي ممنوعة عني لمدة أربعين يومًا وغير مسموح لي بالقات أو أي شيء، ولا أكل إلا ما يأتي به المستلمين من وجبات تعيسة ، ولم يكن لدي فلوس ولا مسموح لي أن أشتري شيئًا ، وكان مالك البقالة يأتي كل يوم سبت ينادي لمن يريد من السجناء شراء أي شيء من البقالة، وأنا لا مال لدي ، فكان الاستاذ مجيب يشتري لي عصائر وبسكويتات كما يشتري لنفسه لأنه قد سمح له بالتواصل مع أهله وأرسلوا له فلوس ، ويصر على أن يقسم لي ما يشتري من البقالة كل اسبوع..
وكان الأستاذ مجيب رجل نبيل من أهل الله صوفي متبتل لله ، كان يصلي قيام الليل واسمع صوته وهو يتبتل صباح مساء بتلاوة القرآن ويحفظ يوميًا ما تيسّر منه واسمع تلاوته كل ليلة لسورة الرحمن ، ولأنه دمث الأخلاق كان يحظى باحترام مدير الاصلاحية الاخ الباقر ، وهو رجل محترم يخظى باحترام ومحبة كل السجناء وكان يزورنا ويتبادل الأحاديث المقتضبة معنا كل اسبوع ، وكان كل المستلمين يتعاملوا مع مجيب المخلافي بلطف ودماثة ويعاملوه معاملة طيبة حسنة. وفي آخر أيامي بالسجن الانفرادي تعب الاستاذ مجيب ومرض فتم إسعافه الى المستشفى العسكري ،وكان كل يوم يأتي الأطباء لتفقد أحواله ومتابعة صحته..
وكان يقول لي: "أختي الدكتورة افتكار المخلافي تدرس عندكم بكلية الشريعة والقانون وبمعهد القضاء"، وكان يعتز بها ، وكان يتوقع ان لا يأتي رمضان إلا وقد أُفرج عنه .. قال لي قبل ان يتم نقلي من الزنزانة الانفرادية بأيام: "مر على إيداعي هنا قرابة ١٢٠ يومًا، وأظن أنه سيتم الإفراج عنا جميعا قبل رمضان ماهمش مجانين يخلونا نصوم هنا"..
قلت له: "مؤكد سيفرج عنا بشعبان، أما رمضان مؤكد لن نصوم إلا ببيوتنا".
شكا لي من مجهالة وغلافة وجلافة المحققين، سألته: هل عذبوك؟ قال: "لا وإنما بيرهقونا بالتحقيقات ثلاث اربع ساعات ، وأسئلة هبلاء تنم عن انعدام الخبرة والمعرفة". وفي بعض الليالي يأتي المستلمين ويخرجوه من الزنزانة ويعصبوا عيونه ويأخذوه للتحقيق ، وعندما يعود آخر الليل أصحى من النوم، واسأله: هيا كيف؟، كيف كانت ليلتك وكيف التحقيقات؟، إن شاء الله الأمور طيبة وقرب الفرج ، ويرد: "والله ما أقلك إلا خير متعبين ،لا نعرف ماذا يريدون" ،و أقول له: "لا تقلق أشعر أنه سيتم إطلاق سراحك قريبًا، ستخرج قبلي، لك أربعة اشهر، أمانتك اذا خرجت روح لابيتي وطمنهم وقلهم كذا وكذا" ،ويقول لي: "مرحبا ولا يهمك"..
كان يواسيني بالقول "مافيش سجن يدوم مهما طال سجننا سنخرج ، ولكنها محنة وابتلاء من الله وانت ستتعود بعد مرور شهر ويصير الأمر عندك طبيعي وستزول الضيقة هي فرصة نخلو إلى الله" ، ويواسيني ويجبر بخاطري..
كان نعم الاخ والجار والرفيق، وكان كلما طال حديثنا ياتي المستلم ويحذرنا ويقول: "ممنوع الكلام، بطلوا ثرثرة، الكاميرات والسماعات فوقكم" ، ونعود للصمت..
المهم، نقلوني من الانفرادي بعد ٣٧ يومً، ولا أعرف بعدها هل ظل بالانفرادي، أم تم نقله للسجن الجماعي، أم تم الإفراج عنه..
الى آخر يوم برمضان قبل الإفراج عن الاستاذ ابوزيد الكميم، خرجونا نلعب كرة قدم بملعب السجن قبل المغرب، وعلى طلوعنا الى عنبرنا مرينا من زقاق يمر من أمام العنابر الجماعية لمحت الاستاذ مجيب وهو يتشمس امام العنبر مرتديًا البزة الزرقاء فلوحت له بيدي مسلمًا ومضيت الى عنبرنا ، وكنت كلما زارني الأطباء بجناحنا اسألهم عنهم ويخافون ويتلعثمون ولا يفصحون لي بشيء.
بعد خروجي من السجن، تابعت أخباره وعرفت انه ما زال قابع بالسجن، فحزنت عليه ولكن ما باليد حيلة ، والليلة فوجئت بما نُشر عنه أنه قد نشرت له اعترافات متلفزة من ضمن ما يسمى بالخلايا الجاسوسية فصُدمت وتيقنت انها تهم كيدية مفبركة مخيطة بصميل لا أساس قانوني يسندها..
أنا متيقن أنه مظلوم وبريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وأنه رجل وطني محترم مستقيم وتربوي قدير خدم الوطن باخلاص وتفاني ٢٣ سنة بقطاع التربية والتعليم..
الحرية لك يا صديقي ولكل السجناء المظلومين ، ولا تحسبن الله غافل عن ما يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار.