Image

تسييس متزايد للوائح التنظيمية المالية في أمريكا والمملكة المتحدة

القواعد الحاكمة للمصارف وشركات التأمين ومديري الأصول تسقط في هوة الانقسامات الأيديولوجية

بإمكاننا توقع إثارة الكثير من الجلبة حيال مسائل تهم الناخبين في كل من المملكة المتحدة وأمريكا خلال الأشهر المقبلة، ما بين تكلفة المعيشة والهجرة، إلى جانب مجموعة مألوفة من موضوعات «الحروب الثقافية»، مع دخول كل منهما في فترة الدعاية الانتخابية.

وفي ثنايا الحديث عن التخفيضات الضريبية، وإيقاف القوارب التي تقل المهاجرين، والحيلولة دون عبور الحدود، سيكون من النادر أن تجد شخصيات بارزة كبيرة في الأحزاب، وحتى المتنافسين على مناصب القيادة، وهم يتطرقون إلى موضوعات مثل القواعد التنظيمية المالية والمصارف المركزية.

ولعل واحداً من أكثر الأمثلة إبهاماً في سباق قيادة حزب المحافظين البريطاني في 2022، كان عندما تسببت ليز تراس وريشي سوناك في حيرة المراقبين، بحديثهما في مناظرات مُتلفزة عن القواعد التنظيمية المالية التي يقتصر فهمها على فئة معينة، لا سيما خططهما المضادة بشأن إزالة القواعد التنظيمية «الملاءة 2» الحاكمة لعمل شركات التأمين، و«فك قيود» قواعد الاتحاد الأوروبي التي سادت قبل «بريكست»، بشأن سلامة رأس المال عن مدينة لندن.

يزداد حجم كرة الثلج هذه منذ بعض الوقت، فقد سقطت القواعد الحاكمة لعمل المصارف العالمية وشركات التأمين ومديري الأصول، في هوة الانقسامات الأيديولوجية بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة، والمحافظين والعمال في المملكة المتحدة، منذ أن تسببت الأزمة المالية العالمية في 2008 في تضييق تنظيمي عالمي. وتتشابه هذه الانقسامات مع تلك المتعلقة بالهوية الجندرية والتغير المناخي.

وحينما مررت الولايات المتحدة تشريع دود-فرانك في 2010، لجعل المصارف أكثر أماناً خلال فترة رئاسة باراك أوباما، اشتمل القانون على إطلاق منصب تنظيمي مالي جديد رفيع المستوى لدى الاحتياطي الفيدرالي.

المثير للسخرية، مع ذلك، أن أول المُعيّنين في منصب نائب رئيس الإشراف، لم يُوافق عليه إلا في فترة رئاسة دونالد ترامب، وقد حوّل بدوره دفة الأمور نحو إلغاء القواعد التنظيمية، حيث خفف راندي كوارلز من أعباء القيود عن كاهل المصارف الإقليمية، بما في ذلك «إس في بي» و«فيرست ريبابليك»، اللذين تعرضا للانهيار خلال العام الماضي.

الأكثر بروزاً من حيث سوء السمعة، كانت محاولة ترامب الصريحة للتأثير في الاحتياطي الفيدرالي، حينما كرر تهديداته بإقالة جيروم باول، رئيس المجلس، وطالبه بتخفيضات كثيفة لأسعار الفائدة. ومع بدء إحماء ترامب للعودة إلى البيت الأبيض لفترة ثانية، يعكف معاونوه على وضع خطط مثيرة لكثير من القلق، بشأن بسط سيطرة مباشرة على الفيدرالي.

وفي المملكة المتحدة، كانت هناك زيادة للتدخل السياسي في عملية صنع السياسة المالية المفترض أنها تتسم بالاستقلالية. وفي مقابلة مع صحيفة «فاينانشال تايمز» الشهر الماضي، انتقد جيريمي هانت وزير الخزانة، آخر سياسات نيخيل راثي الرئيس التنفيذي لدى سلطة السلوك المالي البريطاني. وصرح هانت: «آمل في إعادة سلطة السلوك المالي النظر في قرارها»، في إشارة إلى خطط الهيئة لإعلان هوية المؤسسات التي تُجري تحقيقات بشأنها قبل اكتشاف أي مخالفات.

إنه من الصعوبة بمكان، قياس التأثير الحقيقي الذي يُحدثه الساسة الصاخبون أو هؤلاء الذين يلوون الأذرع على صنع القرار ووضع السياسات في كثير من الأحيان. لكن في الولايات المتحدة، حيث لطالما تأرجحت قيادة كبرى الهيئات التنظيمية ما بين هيمنة ديمقراطية أو جمهورية، حسب من يقود البيت الأبيض، فهناك معركة تدور رحاها خلال الوقت الراهن، وقد تكون ذات تأثير استتباعي كبير.

ومنذ أيام، تقدّم مارتي غرونبرغ، الديمقراطي رئيس مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية، التي تعد هيئة إشرافية مصرفية بارزة، باستقالته. وتبدو الاستقالة في ظاهرها وكأن لا علاقة لها بالسياسة، إذ تأتي في ضوء مراجعة لثقافة محل العمل، كشفت ترؤس غروينبرغ لمؤسسة «معادية للمرأة». كما أنه خلال العام الماضي، نشرت «وول ستريت جورنال» تحقيقاً حول وجود تنمر داخل المؤسسة.

لكن هذا الأمر، سواء كان مُسيّساً منذ البدء أم لا، فقد صار كذلك في الوقت الراهن بكل تأكيد. ولن يتمتع مجلس إدارة مؤسسة تأمين الودائع الفيدرالية بأغلبية ديمقراطية 3 إلى 2، لكي يتمكن من تمرير مجموعة أكثر صرامة من متطلبات رأس المال المصرفية التي يُطلق عليها «بازل 3 النهائية»، إلا في وجود غرونبرغ بمنصبه.

وقد ردد الجمهوريون صدى احتجاجات وول ستريت، فعارضوا القواعد الجديدة التي خففها منها الفيدرالي بالفعل. ويبدو أن غرونبرغ فاق منتقديه ذكاءً، إذ بيّن أن استقالته لن تدخل حيز التنفيذ إلا في وجود خليفة له. وطلب الجمهوريون إلى غروينبرغ نهاية الأسبوع الماضي، المثول أمام لجنة استماع في الكونغرس للمرة الثاني خلال شهر.

ويرى دينيس كيليهر، الذي يترأس حملة «بتر ماركتس» النشطة، أن «الجمهوريين لن يألوا جهداً حتى يجبروا غرونبرغ على الاستقالة، وتعيين نائب رئيس للمجلس من الجمهوريين». لن يأتي هذا سوى بإلغاء قواعد رأس المال المصممة لجعل المصارف الإقليمية، التي ما زالت هشة، أكثر أماناً، وكذلك دعم عمالقة وول ستريت.

ومع تخلّف جو بايدن عن ترامب في عدد من الولايات المهمة، فمن شأن ازدياد الدعاية لفضيحة يتورط فيها حليف تنظيمي للرئيس، أن يلحق مزيداً من الضرر بآمال إعادة انتخابه لفترة ثانية. وهكذا، فإن تسييس القواعد التنظيمية سلاح ذو حدين.