العقل العربي .. وإنغلاق الأفق السياسي
مشكلة مستعصية عن الحل حتى اللحظة ، وهي مشكلة انغلاق الأفق السياسي للعقل العربي ، فهذا العقل بمجرد تعرضه لانتكاسة سياسية أو بمجرد اتخاذه موقف سياسي يتحجر ويتصلب في مكانه ، ويظل يدور ويدور حول تلك الانتكاسة أو حول ذلك الموقف ، ويربط كل مواقفه وتحركاته بهما ، ويرفض الخروج من تلك القوقعة الصغيرة ، وكأن الأحداث قد توقفت عند ذلك المنعطف ، ولا يتوقف عن تذكر تلك الانتكاسة أو ذلك الموقف عند كل شاردة وواردة ، بل إنه يبني عليها علاقاته وعداواته وصداقاته وكل تفاعلاته في الحياة ، عقل متجمد ومتحجر ومنغلق وبائس ويائس.
والأكثر غرابة في موضوع هذا العقل هو عدم قدرته على مجاراة المتغيرات والمستجدات وبناء مواقفه وتحركاته وتفاعلاته بموجبها ، وهنا تكمن ديناميكية ومرونة وسياسية وانفتاح ودهاء العقل ، بعكس التوقف عند موقف أو انتكاسة أو حدث معين ، فهذا هو الجمود والركود والانغلاق والغباء السياسي بعينه.
فالأحداث متغيرة ومتبدلة في هذه الحياة ، وهو ما يتطلب من العقل التعامل معها بشكل متجدد حسب المعطيات والمستجدات والمتغيرات ، فليس هناك عداوة دائمة ولا صداقة دائمة في عالم السياسة ..
فعدو الأمس قد يصبح صديق اليوم; نتيجة حدوث المتغيرات وتقلبات الأحوال وتبدل الموقف ، التي قد تفرض عليكما الوقوف في صف واحد كخيار وحيد وحتمي وإلزامي ، لمواجهة التحديات الكبيرة والمصيرية التي تعترض طريقكما وتنهي كل أمالكما في الحياة ، أو الاستمرار في العداوة وتجميد العقول عندها واستذكارها والرزوح تحت ضغطها ، والاستعداد لتحمل كل النتائج السلبية والكارثية لتلك المواقف المتصلبة الناتجة عن رؤية قاصرة ومنغلقة ومتجمدة في الأفق السياسي ..
وهذا هو وضع العقل السياسي العربي فهو لا يمتلك القدرة على التعاطي الايجابي مع المتغيرات والمستجدات ، ولا يمتلك المرونة على تجاوز خلافات وعداوات الماضي ، فتراه مستمرا في عداوته ومواقفه المتصلبة ، غير مدرك خطورة ذلك على حاضره ومستقبله ، حتى لو أصبح هو وعدوه السابق ضحايا المتغيرات والمستجدات السياسية ، وحتى لو زالت كل أسباب العداوات السابقة ، وأصبح الحديث حولها مجرد ذكريات وتاريخ .
هذا العقل المتجمد والمنغلق الذي لا ينظر إلا إلى بين قدميه ، كونه لا يمتلك القدرة على استشراق المستقبل والتعاطي معه بشكل ايجابي بما يعود عليه بالنفع أولاً ، وعلى مجتمعه ووطنه ثانيا وأمته العربية ثالثاً ..
هذا العقل الذي يسمح للايديولوجيات والأفكار والنظريات أن تستعمر عقله وتسيطر عليه دون مراجعتها وفحصها ودراستها ، بسبب انغلاق وانسداد الأفق السياسي لهذا العقل ، الذي يعطي تلك الايديولوجيا والأفكار هالات من القداسة ليحولها إلى دين حتى لو كانت تتعارض مع الشرع والعقل والعلم والمنطق ، فتراه وهو بكل غباء وحماقة وتعصب يخدم مشاريع توسعية واستعمارية تستهدف وطنه وهويته وقوميته ودينه ، لأنه من السهل الضحك على العقل المنغلق واستغفاله واستغلاله وتسييره حتى في غير مصلحته ، فهذا العقل نتيجة انغلاق أفقه السياسي لا يدرك ولا يعرف أين هي مصلحته الحقيقية ، فقد تخدعه بشعارات زائفة ومواقف دعائية كاذبة ، وقد تغريه ببريق السلطة والمناصب الشكلية ، وتجعله يعمل في غير مصلحة نفسه ومجتمعه ووطنه وأمته .
إن ما تعانيه الشعوب العربية والقومية العربية من انتكاسات وهزائم واختراقات وتراجع وتخلف وتبعية وانقسامات وصراعات داخلية هي النتيجة الطبيعية لإنغلاق الأفق السياسي للعقل العربي ، وإذا استمر الحال على ما هو عليه فإن القادم سيكون أكثر سلبية ، وهل هناك ما هو أكثر سلبية من أن الإنسان لا يفرق بين عدوه وصديقه ، ولا يميز بين من يريد له الخير ومن يريد له الشر ، ولا يميز بين من يريد لوطنه البناء والنهضة والتقدم وبين من يريد له الخراب والدمار والفوضى والتخلف ، ولا يميز بين من يريد له العزة والكرامة والحرية والاستقلال ومن يريد له الذل والهوان والعبودية والتبعية ، وهنا وهنا فقط تكمن كارثية وسلبية العقول السياسية المنغلقة والمتعصبة والغبية .