الهروب من الحرية .
الأحداث التاريخية خلال مسيرة البشر على كوكب الأرض ، كشفت بأن العديد من البشر يعشقون العبودية والخنوع للظلمة والمستبدين ، بل إن هذا النوع من البشر هم بأنفسهم من يصنعون الطغاة ويشيدون عروشهم ويدافعون عنهم ويمجدونهم ويتلذذون بسياطهم وهي تلسع جلودهم ، وذلك تحت تأثير ثقافة العبودية التي تصنع في داخلهم نفسية العبيد ، تلك النفسية الخانعة التي تبحث فقط عن لقمة العيش التي تبقيها على قيد الحياة ، الحياة البائسة التي تسخرها في خدمة الطغاة والمستبدين ، والتكاثر لإنتاج أجيال جديدة خانعة ومستعبدة تعمل في خدمة أبناء الطغاة ( مصانع لإنتاج العبيد ) ..
أناس قبلوا على أنفسهم الذل والهوان ولا طموح لهم في العيش بحرية وعزة وكرامة ، بل تراهم وهم يهربون من الحرية ويقفون في صف الجلادين والطغاة عند مواجهتهم لدعاة الحرية والتحرر السياسي والفكري ، وللأسف هذا النوع من البشر لهم حضور في كل مجتمع وزمان ومكان .
وهو ما جعل حياة البشر حافلة بالعبودية والظلم والطغيان والجبروت والاستبداد ، ودائما ما كان يقف هذا النوع من البشر في مقدمة الصفوف للدفاع عن الطغاة والمستبدين إذا ما قرر البعض مواجهتهم ووقف ظلمهم ، ودائماً ما كانت سيوف العبيد الخانعين هي من تدافع عن عروش الطغاة المتجبرين ، وهي من تذود عنها وتضحي من أجلها ، وهو ما يؤكد بأن للعبودية عشاق ومريدين في كل زمان ومكان ، عشاق لا يهنأ لهم العيش إلا تحت ظلال العبودية والخنوع ، عشاق لا يتوقفون عن تمجيد وتعظيم أسيادهم وجلاديهم ، عشاق يخافون من الحرية والتحرر ويهربون منها ويعادون كل من يرفع رايتها ويدعوا إليها ، لأنهم يفتقدون للثقة في أنفسهم وذواتهم وقدراتهم ، ويفضلون العيش تحت كنف غيرهم حتى وان مارسوا ضدهم الظلم والطغيان ، بل إنهم يشعرون بالامتنان والشكر لهم ..
إنها ثقافة العبودية والإتكالية القائمة على الاعتماد على أصحاب النفوذ والجاه والسلطان ، لإدارة شئون حياة العبيد العاجزين والفاشلين بالطريقة التي يرونها مناسبة .. إنها ثقافة الذل والخضوع مقابل البقاء على قيد الحياة ، إنها ثقافة من لا طموح لديه بالعيش في هذه الحياة بعزة وكرامة ومساواة وعدالة .. إنها ثقافة مع القوي يا عون الله حتى وإن كان ظالما وطاغية ومستبداً وعنصرياً ومتكبراً ومتجبراً .. انها ثقافة الشعور بالنقص والدونية ، إنها ثقافة التمييز العنصري والطبقي بين بني الإنسان ، وبسبب هذه الثقافة السلبية دفع دعاة الحرية والتحرر الفكري والسياسي الكثير من التضحيات ، وهم ينشدون للبشر الحرية والعزة والكرامة والمساواة ، وهم يقارعون الطغاة والمستبدين ودعاة التمييز العنصري في كل زمان ومكان ، كل ذلك رغم أن التشريعات الدينية تدعو البشر إلى العيش بعزة وكرامة ، وتؤكد بأن الانسان مخلوق مكرم كرمه الله تعالى ، وليس من حق أحد أيا كان المساس بذلك التكريم الإلهي أو إنتقاصه بأي شكل من الأشكال ، قال تعالى (( ولقد كرمنا بني آدم )) ..
إلا أنه للأسف الشديد لم يتم الالتزام بتلك الأوامر والتشريعات الربانية العظيمة ، فهناك العديد من البشر أبوا إلا أن يفرطوا في حريتهم ويهدروا كرامتهم بأنفسهم ، ويقبلوا على أنفسهم الذل والهوان والعبودية . كل ذلك نتاج ثقافة العبودية وعشق العبودية والتعود على تمجيد وتعظيم الطغاة ، والتلذذ بظلمهم وطغيانهم وبطشهم ، وسطوة أعوانهم وهم يفرضون على العبيد المزيد من الإتاوات والجبايات الباهظة ، ويأخذون لقمة العيش من أفواه أطفالهم .
وهذه الثقافة هي أسوأ ثقافة عرفتها البشرية ، وهي الثقافة التي شوهت مسيرة البشر عبر الزمن ، وأفقدت العديد منهم الثقة في أنفسهم وطبعت على جباههم وشم العبودية المشؤوم ، ورسخت في نفوسهم ثقافة الخنوع والذل ، ليستمر مشهد الحياة القاتم بحضور لافت لفئة العبيد الذين يسخرون وقتهم وجهدهم ، لنشر هذه الثقافة السلبية التي تتناقض مع الشرع والعقل والمنطق ، بل ويضحون بأنفسهم في سبيل تعميمها على بقية البشر ليكونوا عبيد أمثالهم .
ما أتعس وأقبح العبيد وهم يمجدون ويعظمون أسيادهم وجلاديهم ، وما أغباهم وأحمقهم وهم يهربون من نعمة الحرية والعزة والكرامة الإلهية.