هل تنجح الضغوط في تغيير السياسة الأمريكية ازاء القضية الفلسطينية؟
وصلت نتائج العدوان الصهيوني البشع إلى زاوية ضيقة ، حيث برزت مؤشرات رفض ملموسة أدانت الهمجية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي بقيادة حكومة نتنياهو وبحق الأعيان من مستشفيات ومدارس ومقرات إعلام ومراكز إيواء ومدنيين عُزَّل ونساء واطفال ، حيث تابعنا تصاعدًا مستمرًا لعمليات الاحتجاج التي اجتاحت المدن في الشرق والغرب وفي قلب الجامعات الأمريكية.
ردود الفعل هذه التي تطالب بوقف آلة الحرب والدمار على غزة وابنائها هي من أهم أوراق الضغط السياسي التي تشكَّلت في لحظة التنافس بين الجمهوريين والديمقراطيين على الانتخابات الرئاسية ، وفي ظل صمت أنظمة وحكومات مهمة في أوروبا ، في وقت وصل عدد القتلى الفلسطينيين إلى ما يقارب خمسة وثلاثين ألف وتدمير بنية تحتية بمليارات الدولارات.
كما جاءت هذه الاحتجاجات رافضة بشكل مطلق انحياز الإدارة الأمريكية الفاضح لإسرائيل ودعمها اللامحدود، وإعطائها الضوء الأخضر لممارسة المزيد من جرائم القتل والتشريد والتجويع ، والتي شبهها السيد بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوربي بأنها جرائم لا مثيل لها في التاريخ ويندى لها جبين الإنسانية.
إلا أن الادارة الأمريكية تصر على استمرار الدعم العسكري والسياسي لهذا الكيان الغاصب عبر استخدامها للفيتو في مجلس الأمن وتعطيل أي قرار يعبر عن إرادة المجتمع الدولي بضرورة وقف هذه المجازر الدموية ، إضافة إلى عدم ممارستها لأية ضغوط جادة لإدخال المساعدات الغذائية والطبية إلى غزة.
وقد وصل الأمر بإدارة بايدن الحالية إلى إجهاض مسودة قرار مجلس الأمن الدولي بالاعتراف بحق الشعب الفلسطيني وقبول عضوية دولة فلسطين في الأمم المتحدة، وهو ما يؤكد حقيقة أن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه قضايا الشرق الأوسط هي رهينة المصالح الاسرائيلية والدوائر الصهيونية ، حتى باتت لها الأفضلية والترجيح على المصالح الامريكية نفسها التي تتضرر في الشرق الأوسط.
إننا أمام حراك جماهيري برز من داخل الجامعات الأمريكية صانعة الرأي ومركز إعداد القادة ، يعبرون عن آرائهم بكل شجاعة كحق ديمقراطي وإنساني، إلا أن طبيعة وشكل تعامل السلطات الأمريكية معهم بقسوة مفرطة وقمع تلك المظاهرات والاحتجاجات السلمية ، شكل صدمة لكل من كان يعتقد ان هناك حرية تعبير في أمريكا ، وفضح زيف شعاراتها البراقة بالحفاظ على الديمقراطية واحترامها لحقوق الانسان ، والتي باتت مجرد شعارات للاستهلاك وأدوات للتدخل في شؤون الدول الأخرى واستخدام تلك الدعايات لتجميل وجهها القبيح.
نحن رغم الأسى والحزن لما لحق بغزة وأهلها من قتل وتدمير وتشريد وانتهاك لأبسط حقوق الإنسان في الحصول على الغذاء والدواء ، فإن هذه الحرب عرَّت أمريكا وشعاراتها الكاذبة، وكشفت أكاذيب الدعاية الغربية المضللة بأن إسرائيل عبارة عن واحة ديمقراطية في صحراء عربية من الدكتاتوريات والاستبداد.
لقد خلقت بشاعة الحرب ضد المواطن الفلسطيني حالة من الغليان داخل أرقى جامعات أمريكا من هارفارد وماسوشتس وكولومبيا وبنسلفانيا وحوالي ٧٥ جامعة أخرى، وامتداد هذا الحراك العظيم إلى جامعات ومعاهد فرنسا وبريطانيا وكثير من دوائر صناعة القرار والرأي ، وهذا يشير إلى أن غزة وصمودها وما تتعرض له من مشاهد مأساوية جعلت ضمير العالم يهتز والرأي العام العالمي ، في تحول إيجابي نحو القضية الفلسطينية مهما حاولت آلة الدعاية الغربية والدوائر الصهيونية حجب أو تزوير الحقائق.
والسؤال الحاضر الآن: هل ستؤدي هذه الاحتجاجات التي نظمها الطلاب والاكاديميين والمواطنين إلى تغيير جذري أو جزئي في السياسة الخارجية الأمريكية الحالية تجاه المنطقة وتحديدًا في فلسطين؟
ما يجري في غزة هو اختبار حقيقي لكشف جوهر النظام الأمريكي تجاه القضايا المصيرية والصراع العربي الإسرائيلي ، خاصة أن هناك من يرى أن السياسة الأمريكية شديدة الانحياز لهذا الكيان الغاصب على اعتبار أن ذلك جزء من استراتيجيتها ومن سياستها الثابتة تجاه الشرق الاوسط ، فيما يرى آخرون أن هناك تغيير لفظي أو شكلي في ممارسة بعض الضغوط على إسرائيل ومنعها من اقتحام رفح أو التقليل من الخسائر بحق المدنيين لامتصاص الغضب تجاه امريكا ، غير أن الدعم بمليارات الدولارات ، إلى جانب بعض التصريحات تشير إلى استمرار السياسة الأمريكية في اتجاه الوقوف في صف الكيان الإسرائيلي دون عمل أي اعتبار للمظاهرات أو الضغوط الدبلوماسية العربية او الدولية.
من وجهة نظري ، أن تغيير السياسة الأمريكية في اللحظة الراهنة تجاه غزة يقوم على مرتكزين أهمهما: استمرار الاحتجاجات داخل الجامعات بما فيها كولمبيا ، الأمر الآخر استمرار الضغوط العربية لمنع اجتياح رفح والدخول بمفاوضات تفضي إلى وقف شامل للعدوان والبدء بالإعمار بعيدًا عن وضع حركة حماس السياسي داخل القطاع في الوقت الحالي.
والرهان تاريخيًا كما حدث مع حرب فيتنام أو عمل اعتبار للانتخابات وغيره ، على هذه الاحتجاجات ومصدرها أمر مشروع ، لكن هذا يعتمد على الاستمرار وعدم قمع تلك المظاهرات أو امتصاصها بقرارات ذر الرماد للانتقال إلى مربع ربما يكون أسوأ بالنسبة للفلسطينيين ولغزة.
مؤشرات عديدة وان جاءت متأخرة تقول أن هناك ضغوطات تمارس ضد حكومة نتنياهو وبايدن لإيقاف العدوان وضرورة حل الدولتين وإن كان هذا الأمر بالنسبة لأمريكا بمثابة شاحنة عملاقة فإن استدارتها تحتاج إلى وقت ومساحة واسعة من الطريق.
في الحقيقة ، وبقدر رهاني على أن هناك تأثير واسع لتلك الاحتجاجات إزاء القضية الفلسطينية إلا أن هذا التغيير لن يلبي طموح الصداقة الطويلة والعميقة والعلاقة بين أمريكا وبعض دول الشرق الأوسط نظرًا لتأثير اللوبي اليهودي في دوائر صنع القرار الأمريكي وهذا مفروغ منه ، فهذه اللوبيات معبرة عن المجتمع الصناعي العسكري والنفطي، والشركات العملاقة وهيمنة هذه الجماعات على آلة الإعلام الامريكية، ومع ذلك أظن أن تعديلات طفيفة سوف تحصل على تلك السياسات لأن التغيير عملية صعبة ومعقدة في دولة مثل أمريكا وفي قضية مثل قضية فلسطين.